تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

اقتبس الكاتب هنا نصين مختلفين للجابري ووضعهما في سياق مقدمته التي يريد أن يستنتج منها "فهمـ"ـه للنية "غير" الحسنة الكامنة خلف كتابات مواطنه. فالنص الأول

[لا أرى أن الوطن العربي في وضعيته الراهنة يحتمل ما يمكن أن نعبر عنه بنقدٍ لاهوتي .. لأنه لا الوضعية الثقافية والبنية الفكرية العامة المهيمنة، ولا درجة النضوجِ الثقافي لدى المثقفين أنفسهم تسمح بهذا النوعِ من الممارسة الفولتيرية، ولا السياسة تسمح. وبطبيعة الحال فالإنسان يجب أن يعيش داخل واقعه لا خارجه، حتى يستطيع تغييره".] لا يدل كما ذهب الكاتب إلى تعمد التقيّة و"إضمار السوء"، بل دلالته واضحة من مفكر يعتمد التحليل والنقد الفلسفي الحر منهجاً وطريقة، فقد قضى عمره أستاذا في الفلسفة مشاركا في كل الندوات التي تُعقد عن التراث محاولا فهمه وتفهيمه. ولا أظن من بين القراء من يجهل كثرة القيود السياسية والاجتماعية والفكرية أمام كل مفكر عربي. كل ما في نص الجابري أعلاه شيئان ضروريان أولهما أنه يستحيل على الكاتب أو الفيلسوف أو الفاعل الاجتماعي أن يغير واقعا دون أن يكون في داخله، فلا تغيير من برج عاجي. و"المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم". ولكن العيش داخل مجتمع يقتضي أخذ مستواه الفكري والقيمي بالحسبان، وأن يسعى جهه أن لا يصطدم بالبنى الفاعلة فلا يسبح ضد التيار ولا يستثير المخيال الجماهيري. وليس من باب نقد العرب او المسلمين أن تقول إن حرية التعبير وابداء الرأي هي في بلاد الغرب خير منها في بلادنا، فإن هذا لا ينتطح فيه كبشان.

فكلمة الجابري توصيف مستبصر ونصيحة ثمينة لكل مصلح، وهي تدل على صدق الرجل لا على نفاقه وإضماره نية السوء ضد الأمة فهذا أقل ما يقال فيه إنه إبعاد للنجعة.

والنص الثاني ورد عند الجابري في سياق مختلف، ذلك أن الجابري نصح المفكرين العرب نصيحة من ذهب، فلا يرتاب عاقل أن واجب المثقف والفيلسوف المفكر أن ينتصر للعقلانية لكنه الأستاذ الجابري هنا ينصحهم أن لا يهاجموا اللامعقول لأنه سيثير من المشاكل أكثر مما يحل، ولأن اللامعقول شعري ينتصر على الواقعي حتماً.

وهذا من عبقرية الجابري ولا ريب.

جرب أن تبدأ مع الشيعي بأن تنكر اللامعقول، أن تبدأ بأن تقول إن (صاحب الزمان خرافة) أو لا وجود لقائم "’آل محمد، الإمام الحجة ابن الحسن"، سينفر منك مباشرة ويتهمك بأنك لا "تحب آل البيت" وأنك "ناصبي"، على حين أن الاعتقاد بوجود هذا الكائن الخرافي هو قتل للدين والعقل معاً. لكن الجابري ينصح الذين يريدون نشوء عقلانية واقعية بين المسلمين أن يتسموا بالهدوء ويعد النظر وتعليم الفيزياء والعلوم حتى تنشأ العقلانية فيكتشفوا بأنفسهم استحالة وجود مثل هذا الكائن الخرافة.

وهو طريق طويل لكن لا يوجد غيره أمام الإصلاح السلمي الهادئ.

ولأن الأستاذ الجابري خير من يمثل المهتمين بتحليل التراث فإنه أعلم وأدرى من غيره بكثرة البنى اللامعقولة التي ظهرت فيه والتي يتطلب تحليلها أن تخوض معارك فكرية شرسة مع الناطقين باسمها.

وبرغم أننا ننتمي إلى أهل السنة وهم أكثر المسلمين وأقلهم لا معقول إلا أن التعصب وردود الفعل فيما بينهم قد أنتجت تجاذبات وإضافات ليست من كيان الدين في عصر الصحابة، وهذه البنى الحادثة لها من ينطق باسمها ويستميت دفاعا عنها، فينصحنا الأستاذ الجابري بحق أن ننشغل ببيان المعقول دون أن نقابل بينه وبين اللامعقول. وهذه عبارة عامة قد حملها الكاتب على أسوأ محمل.

والرجل ليس كغيره من العلمانيين ودعاة الحداثة، فهو بارع وله مهارة خاصة في التمويه والخداع والتلبيس .. لذا فهو لا يستعمل أبدا مصطلح العلمانية في كتبه وأبحاثه، بل يرفض استعمال هذا المصطلح، في حين يناضل بكل قوته من أجل تثبيت مفهومه وحمولته في الفكر المغربي وما يستتبع هذا التثبيت من محاربة للدين والتدين بمفهومهما الأصيل، وإحلال دين وتدين يتماشى مع مفهوم العلمانية، التي يستعيض عن مصطلحها بمصطلحات من قبيل العقلانية والديمقراطية .. لأن المجتمع عنده لم يستكمل عملية التهيئة اللازمة لقبول مثل هذا النوع من المصطلحات، وقد أقرَّ هو نفسه كما سبق أنه يمارس نوعاً مما أسماه بعض الباحثين (نفاقاً علمياً)، حين أشارَ إلى أنه لا يصرح بفكرته مراعاة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير