لطبيعة العقل العربي الذي لا يتقبل النقد اللاهوتي حين تمسُّ المسلمات.
كشف الكاتب هنا عن أنه لم يقرأ تحليل الأستاذ الجابري لمصطلح علمانية تحليلا مستفيضا عند حديثه الرائع عن العلاقة بين العروبة والإسلام.
ينطلق كاتب المقال من خلفية دينية وهذه مزية لولا أنه يظن أنه لا يوجد "علماني " أو "دنيوي" نزيه. وهو بلا شك مخطئ أيما خطأ. فالجابري يختلف عن سواه من العلمانيين ليس فيما ذهب إليه ظن الكاتب بل في كونه نزيها ومن هنا جرأته وقوة تحليله. وأسباب الأمانة أربعة ليس الدين إلا أحدها، هي على هذا النحو:
-عقلي، كأن يفكر الإنسان أن لا يسرق لأنه سينكشف أمره كما انكشف سواه، فيقرر أن يكون أمينا لأنه أسلم له وأرد عليه بخير
-اجتماعي، يخاف المرء على سمعة العائلة، أن يقال ابن فلان فعل كيت وكيت
-ديني، أن يخاف من الله، ويفكر بالحساب والعقاب
-جمالي، أن يفكر بجمال أن يفي الناس بوعودهم وأن يحترموا أشياء الآخرين وأن يكون كل شيء كما ينبغي أن يكون.
وفي البحث العلمي تهمنا الأمانة كثيرا مهما كان سببها، والأمين لأي سبب (عقلي، أو اجتماعي، أو ديني، أو جمالي،) أنفع للعلم والفهم من المتدين غير الأمين، أو المتدين قصير النظرة "المرائي بالشيوخ" على قول الغزالي، أو المتشبع بما لم يُعط، أو المتزبب وهو حصرم!
فقد قال جمال الدين الأفغاني رحمه الله في كتابه الرد على الدهريين، إن الدهريين في الغرب تجد عندهم على إلحادهم حبا لبلادهم وأوطانهم ولبني جنسهم عى خلاف الدهريين عندنا، وهكذا يمتاز دهري الشرق على دهري الغرب بالخسة والنذالة بعد الكفر والزندقة.
ويبدو أن الحديث عن هذه النقطة بعينها يستلزم تفصيلا.
كان الجابري منذ ابتداء مسيرته بعد الدكتوراه قد تأمّل مليا في سبب تقدم الغرب علميا وتأخر المسلمين وهم كانوا حملة الحضارة والفكر العلمي فيما يسميه الغربيون في تاريخهم بالقرون الوسطى، وجاءه تأمله ذلك من تفكره عشر سنين في مقدمة العلامة ابن خلدون الخالدة. فاهتدى بفكره الثاقب إلى ما قرره في مقدمة الجزء الأول من كتابه "دراسات في الإيبسستيمولوجيا المعاصرة- الفكر الرياضي " أن الفلسفة القديمة كانت في مجملها فلسفة في الوجود والفلسفة الحديثة فلسفة في المعرفة، وأن للعقل حدودا يعرفها لا تفرض عليه من خارجه كما يحاول "المؤمنون" بل إنه أوعى بقصوره وقدرته المحدودة بالحواس فقط. ولذلك قرر الجابري أن يترك لمن شاء أن يبدد قدراته العقلية خارج حدود الواقع المحسوس وأن يستغل عقله في التفكير به داخل مجاله. ولذلك قدم الجابري للإنسان العربي بعقل عربي كتبه القيمة في تقريب ماضيه منه، وبيان عقلانية تراث حوّمت به كتب الأدب وخيال الإنسان الجامح خارج حدود العقل. وقد كان الجابري ذكيا سار على قول النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم"الحكمة ضالة المؤمن" فاستفاد من كل مايجعله يفهم موضوعه مهما كان انتماؤه.
فكون الجابري لا يرى العقل العربي في مرحلته التاريخية المعاصرة مهيئاً لمصطلح علمانية يعدّ بُعْدَ نظَر لديه ولا يعد دليلا على "نفاقه".
وما أرى الكاتب الشاب إلا متحاملا على مواطنه الشيخ تحاملا لا مسوغ له.
وقد وصف العلماني الآخر جورج طرابيشي مشروع الجابري بأنه "يتصدى للعقل الإسلامي في شبه حصان طروادة"، الذي يرنو إلى إفساد الإسلام من داخله.
حاول طرابيشي أن يتسلق على مشروع أثنى عليه إبان صدوره، ثم كان معه كما قالوا في وصف النقاد / إنهم عجزوا عن حفر بئر عذب كالشعراء الكبار فقاموا بتلويثها.
وقد صدر مؤخراً عن مركز دراسات الوحدة العربية كتابٌ جديد للجابري بعنوان "فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول"، وهو جزء ثان -في قسمين- صدر بعد الجزء الأول: "مدخل إلى القرآن الكريم" والذي خصصه -حسب قوله- للتعريف بالقرآن الكريم.
¥