وقد تضمن الجزء الأول فصلاً بعنوان "جمع القرآن ومسألة الزيادة فيه والنقصان"، جاء في (ص:232) منه: "ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمع زمن عثمان -أي القرآن- أو قبل ذلك، فالذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين، وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذكر في مصادرنا، وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر، فالقرآن نفسه ينص على إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنسخ .. " اهـ.
الجابري أستاذ مختص بالفلسفة وله قدرة تحليلية هائلة إذا قورن بنظرائه من العرب بدا عبقريا، وكتابه "نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي" الذي نشر فيه مجموع دراسات شارك بها في مناسبات متفرقة جمعها موضوع واحد، يعدّ هذا الكتاب فنحا في الدراسات العربية عن التراث الفكري، وفيه استخدم منهجا موفقا حيث فصل بين المحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي، ولولا هذا الإجراء المنهجي لما تمكن الجابري وتمكنا عن طريقه أن نفهم الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل والفكر العربي الفلسفي على الإطلاق. لقد استطاع الجابري أن يضع الفلاسفة في مكانهم الطبيعي من تاريخ الفكر العربي الذي هو بنية من بنى تاريخ العلم والفكر الإنسانيين.
وهو ليس مختصا بالقرآن ولا بالعلوم الشرعية ولكنه جاء إليها من اهتمامه بالفكر العربي وتحليله، وتعد العلوم الشرعية عنصرا رئيسا في بنيته، ولا ننسى أنه هو من كشف أن الشافعي هو من رسخ آلية القياس في العقل العربي.
لكن الجابري قد كبرت سنه وقد أدى رسالته كأستاذ ناجح في الفلسفة لم يتطفل على اختصاصه ولم يتشبع بما لم يعط ولم يحاول أن يتسلق على أكتاف الآخرين، ورأى أن الدراسات القرآنية هي كما وصف هو القراءة السلفية للتراث بأنها "التراث يكرر نفسه"
فشمر عن ساعده ليقتحم غمارا لم ينفق فيه طفولته ولم يتعمق فيه من البداية، لكنه كما قلت يظل ذا قدرة تحليلية عظيمة ومنهجية محترمة فحاول أن يكتب تفسيرا للقرآن لكنه استهله بمقدمة أو مدخل استفز مشاعر الكثيرين ومنهم صاحب المقال.
وأنا شخصيا لم يعجبني كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم" بل أراه أضعف ما كتب الجابري، وعن منهجه في التفسير فقد ابتدأ بمحاولة دراسة النص مرتبا وفق النزول لا وفق الترتيب الذي سار عليه المسلمون منذ عهد عثمان على الأقل.
وهذه محاولة لا يعاب عليها فهي جائزة شرعا لأنها إجراء لفهم الكتاب لا غير،
وأما قوله إن جمع الصحابى للقرآن أمر يجوز عليه الخطأ فهو عمل بشري، فما ينكر أنه قول جريء لكنه تذكير بأن الكمال لله وحده.
ويجدر بنا أن نذكر أن القرآن قد مر بطريقين إلينا الأول من الله تعالى إلى رسوله بواسطة جبريل فهذه من أنكرها فقد كفر لقوله تعالى عمن قال عن القرآن إنه "قول البشر سأصليه سقر". وأما طريق القرآن من النبي إلينا كيف حفظه أصحابه وتدارسوه وتلوه وتعبدوا به وكتبوه وعلى ماذا كتبوه وكيف جمعوه ومتى طور الخط العربي ليصبح قادرا على نقل النص وأين توجد أقدم النسخ من المصحف في أي متاحف العالم ومكتباته العامة وهل اختلفت في هجاء بعض كلماته أم اتفقت على جميعه، إلى غير ذلك فهذا كله فعل بشري، قابل للصواب والوهم غير أنا لا نشك أن الله تعالى قد رعاه ومن على المسلمين بأن شرح صدور الخلفاء الأول أن ينتدبوا لجمعه خير حفاظه وكتبته.
ونحن نقبل كل نقد علمي لتاريخ جمع القرآن على أن يتجرد للحقيقة التاريخية ويتعب عليها.
وقصارى ما قام به الجابري وما يستطيع أصلا أن يقوم به هو التالي
أن يلخص ما قيل في الموضوع في كتب علوم القرآن الجامعة ككتاب السيوطي
أن يعتمد بعض اللمسات التاريخية للمختصين بتاريخ القرآن كنولدكة
أن يجتهد رأيه في الجمع بين نصوص من الصعب أن يجمع بينها دون تفكير
وهو وإن فعل كل ذلك إلا أننا لا نرتضي منه استخدام غير مصطلحات علوم القرآن لنفس الفكرة، فقوله سقط من سورة الأحزاب كذا، كان الأجدر أن يقول (ما نسخ لفظه)
لا سقط.
ومثل هذه الهنات هي التي جلبت عليه سخط الناس أو بعضهم.
لكن يظل لعمله قيمة وهي أنه قرب الدراسات القرآنية إلى أوساط كثير ممن كان بينهم وبين العلوم الشرعية حاجز نفسي إما لتربيتهم في الغرب أو لعيشهم بعيدا عن الدين
، وعمله إضافة لا بأس بها إلى مجال العلوم الدينية.
¥