إلا أنه سواء كان ترتيب السور توقيفيا أم اجتهاديا فإنه ينبغي احترامه خصوصا في كتابة المصاحف، لأنه عن إجماع الصحابة والإجماع حجة، ولأن خلافه يجر إلى الفتنة ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب.
قد تبين أن الجابري قام بإجراء روي مثله عن علي أنه كان له مصحف على ترتيب النزول، وحتى لو لم يكن له سلف لكان صنيعه جائزا لأنه تفسير ومحاولة تقريب للفهم وليس إعادة كتابة للمصحف، وحتى لو حاول مسلم أن يجمع مصحفا بحسب ترتيب النزول لنفسه أو لطلابه من الأجل الفهم لكان عمله جائزا، وغير الجائز أن يقوم بذلك لتلاوة التعبد والختمة المعهودة فلا يجوز مخالفة ما استقر عليه الأمر إلا كما تقدم والله أعلم.
وعن آراء جمعه وما تنشرح به صدور بعض الناس فلعله لا تنشرح به صدور غيرهم ..
إن النتيجة التي خرج بها الجابري في جزئه الثاني "من مصاحبة هذه التفاسير مدة من الزمن، مستعينا بالحاسوب وما يرتبط به من مكونات ووسائل تمكن مستعملها من الجولة في الكتب بسهولة، مهما كبر حجمها وتعددت مجلداتها .. هي أن المكتبة العربية الإسلامية تفتقد إلى تفسير يستفيد من عملية الفهم من جميع التفاسير السابقة ويعتمد ترتيب النزول".
وأضاف: "يمكن القول دون فخر زائد ولا تواضع زائف، إنه لأول مرة أصبح ممكنا عرض القرآن ومحاولة فهمه بكلام متصل مسترسل يشد بعضه بعضا، كلام يلخص مسار التنزيل ومسيرة الدعوة في تسلسل يرضي النزوع المنطقي في العقل البشري".
فعلا لأول مرة تمكنا فيها من رؤية مزيج من كتب تفسير أهل السنة وأهل الكلام والبدع، مزيجا وخليطا استحال تجانسه بين دعوة الحق ودعوة الباطل.
هي على العموم محاولة جائزة لم يبتدعها الجابري أكثر مواءمة لطريقة العقل في الفهم/ فالزمن من المقولات التي لا يعقل شيء بدونها، وترتيب القرآن حسب نزوله لغرض الفهم هو وإن خالف ترتيبه لغرض التعبد لكنه يُقبل ًوهو ما لم يدّع الجابري خلافه.
وأما قول الكاتب مزيج من أهل الكلام والبدع فأمر يمثل وجهة نظر غير ملزمة لسوى القائلين بها، فأهل الكلام مسلمون وحتى أهل البدع مسلمون ننكر عليهم ومنهم ما نعلمه يقينا ابتداعا في الدين لا ما خالف مدرستنا أو مذهبنا أو طريقة تفكير آبائنا.
ومن المضحك أن نريد من أستاذ فلسفة أن يصبح سنيا وفقط، بل نكتفي منه أن يكون مسلما ولعل ذلك هو الأصوب لنا جميعا.
من تلبيساته في هذا القسم حشره -بعد ذكر مرويات حول الجن لها علاقة بالقرآن- أحاديث صحيحة بعضها في صحيح مسلم وبعضها في السنن في "جنس الإسرائيليات التي غصَّت بها كتب المفسرين"، وخلوصه بعد نقله كلاما طويلا للرازي في الموضوع إلى رأي المعتزلة الذين وصفهم -كعادة كافة العلمانيين- بأنهم "ذووا الاتجاه العقلاني في فهم الدين الإسلامي"، إلى "أن الجن كالملائكة أجسام لطيفة وحية أي عضويات ( Organismes) دقيقة جدا فيها حياة فهي أشبه بالكائنات الروحية ولكنها لا تستطيع القيام بأفعال شاقة، أما الأشاعرة فيتصورونها جواهر فردة، أي أجزاء لا تتجزأ ( Substances Indivisibles) حاملة للأعراض كالحياة والحركة .. إلخ، يخلق فيها الله القدرة على فعل الشاق وغير الشاق. اهـ.
ومعلوم عند كل باحث في مجال علوم القرآن والتفسير مآخذ العلماء والمحققين على تفسير الرازي "مفاتيح الغيب"؛ كتوسعه في ذكر مسائل علم الكلام، والفلسفة، والعلوم الطبيعية والرياضية، التي لا علاقة لها بموضوع التفسير إلا بشيء غير يسير من التكلف والتأويل البعيد، والتعرض لمثل هذه الأمور مما يجلُّ عنه كتاب الله سبحانه.
ومن بين المآخذ التي سجلها العلماء حول هذا التفسير ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بقوله: "وكان يُعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصِّر في حلِّها" وهذا ملاحظ بالفعل في هذا التفسير؛ إذ يورد الرازي شُبه المخالفين على غاية ما يكون الإيراد، حتى قيل: إنه يقرر مذهب خصمه تقريرًا بحيث لو أراد خصمه تقريره لم يقدر على الزيادة عليه .. لكنه عندما يعود لتقرير ما هو الحق في المسألة نجده يضعف، ولا يوفي الرد حقه. ولأجل هذا كان بعضهم يتهم الرازي في دينه، ويشكك في عقيدته"، ووصف بعض العلماء تفسيره فقال: "فيه كل شيء إلا التفسير".
¥