تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

البكري إن الاستشراق هو أحد أهم مصادر الأفكار الغربية عن الإسلام والحضارة الإسلامية، وإن كان للاستشراق حسناته في إخراج بعض كتب التراث وخدمتها وفهرستها لأغراض مختلفة فإن الاستشراق قد ساهم بقصد أو بغير قصد على نشر صورة غير صحيحة عن الإسلام وشعائره وشرائعه لدى أمم الغرب ومنها انتقل إلى غيرها من الأمم. وحتى قبل الاستشراق فإن الأفكار الغربية عن الإسلام لم تؤخذ من مصادرها الصحيحة وكمثال مما نُشرعلى نطاق واسع في أوروبا الحكاية الأسطورية أن محمدًا صلى الله عليه وسلم درب الحمامة لتلتقط حبات القمح من أذنه وبذلك أقنع العرب أن تلك الحمامة هي رسول الروح القدس الذي كان يبلغه الوحي الإلهي، ولقد بلغ تأثير هذه الحكاية أن شاعرًا إنجليزياً في القرن الخامس عشر هو" جون ليدهيت" وضع سيرة لحياة محمد صلى الله عليه وسلم تحدث فيها عن الحمامة المذكورة ولم ينس أن يقول: إن لونها كان حليبياً أبيض. وبلغ من تأثير الأضحوكة كذلك أنها وردت على لسان أحد أبطال رواية " شكسبير" (هنري الرابع) حيث يخاطب " جان دارك" ساخرًا: (ألم تلهم الحمامة محمدًا؟ أما أنت فإن النسر ربما ألهمك).

وقال: وإذا كان هذا هو صدى هذه الحكاية وأمثالها، فإن الصدى سيكون أوسع لادعاءات تخرج من أوساط علمية ذات مستوى أكاديمي. ومن هذا القبيل المواضع التي انتقدها الباخث على (نولدكه) كزعمه أن وحي الله جل وعلا لمحمد صلى الله عليه وسلم هو صوت داخلي ظنه محمد صلى الله عليه وسلم وحياً، يقول: (إن محمدًا عدّ كل ما يتحرك بداخله شيئاً خارجياً مرسلاً له من السماء، ولم يختبر أبدًا هذا الإيمان؛ بل انقاد للشعور الغريزي الذي قاده مرة إلى هنا ومرة إلى هناك، إذ إنه كان يعتبر هذا الشعور الداخلي صوت الله الذي قدر له بشكل خاص).

فلقد كان لهذا القول انعكاساته على المثقفين الغربيين؛ حيث قال ويلز في كتابه معالم تاريخ الإنسانية إن (محمدًا لم يكن دجالاً بأية حال وإن كان اعتداده بنفسه يدعوه في بعض الأحيان أن يتصرف كأنما كان الله رهن إشارته وكأنما كانت أفكاره أفكار الله).

واشار البكري الى انه إذا قارنَّا كلام ويلز هنا بما قاله نولدكه أدركنا مدى انعكاس أفكار كبار المستشرقين بشأن الإسلام على مؤرخي الغرب وكتُّابه ومثقفيه الذين لا يتمكنون – بسبب عجز لغوي- من التعرف المباشر على الإسلام عبر نصوصه ومصادره الأصلية؛ فلا يبقى لهم من ثَمَّ إلا الولوج إليه عبر البوابة الاستشراقية. هذا في المستشرقين الموصوفين بالحياد والموضوعية فما بالك بمن عُرف منهم بالتجني والحقد الواضح والمغالطات البينة. إن المستشرق في موضوعه – كما يقول الشيخ محمود محمد شاكر- (مأمون عند كل أوروبي من أول طبقة الرهبان والساسة إلى آخر رجل من جماهير الناس، مأمون على ما يقوله، مصدّق فيما يقوله في أمور لا سبيل لأحد منهم إلى معرفتها لأنها تتعلق بأقوام لسانهم غير لسانهم ولا يقوم بها إلا دارس صابر ذو معرفة بهذا اللسان الغريب).

وهذا يلقى بتبعة أخلاقية في المقام الأول على المستشرقين؛ عليهم أن يقدروها حق قدرها؛ وذلك لأن الثقة التي يوليها المتلقي الغربي لأبحاث المستشرق هي ثقة بلا حدود لأنها (يسّرت له – ما لم يكن يتيسر البتة- أن يعرف أشياء كثيرة متنوعة في صورة واضحة مصورة بمهارة ومصنوعة بأسلوب مقنع مقبول لا يرفضه عقله، بل لعله يرتضيه كل الرضا .. فهو – أي المتلقي الغربي- غير حريص على التحقق من صحة التفاصيل التي تكونت منها الصورة؛ ولا هو قادر على التشكك في سلامتها من الآفات، ولا يخطر بباله أن يسأل نفسه: أهي صادقة أم كاذبة؟ أهي مطابقة للحقيقة أم غير مطابقة للحقيقة؟ فإذا كان جزء من الصورة التي يقدمها الاستشراق عن الشرق – والإسلام في قلبه- شائها منقوصاً؛ فإننا نصبح بالضرورة إزاء مشكل كبير يعبر عنه إدوارد سعيد أصدق تعبير حين يقول: (ليس في وسع إنسان في الغرب يكتب عن الشرق أو يفكر فيه أو يمارس فعلاً متعلقاً به أن يقوم بذلك دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل. وبكلمات أخرى فإن الشرق بسبب الاستشراق لم يكن موضوعا حرًا للفكر أو للفعل).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير