تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا ما قاله عدد من علماء الحديث أيضا، ففى "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" يكتب ابن حجر ما نصه: "قال الخطابي: على أن قوله: "من خلق ربك؟ " كلام متهافت ينقض آخره أوله لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا. ثم لو كان السؤال متجها لاستلزم التسلسل، وهو محال. وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث. فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات ... قال الطيبي: إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج لأن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة". وفى "فتح البارى" أيضا: "قال ابن بطال: فإن قال الموسوس: فما المانع أن يخلق الخالق نفسه؟ قيل له: هذا ينقض بعضه بعضا، لأنك أثبتَّ خالقا وأوجبتَ وجوده ثم قلت: "يخلق نفسه" فأوجبت عدمه. والجمع بين كونه موجودا معدوما فاسد لتناقضه، لأن الفاعل يتقدم وجودُه على وجودِ فِعْلِه فيستحيل كونُ نفسه فِعْلا له. وهذا واضح في حل هذه الشبهة".

الشىء الثانى هو قول رسل إنه إما أن يكون كل شىء له سبب أو أنه لا سبب لأى شىء على الإطلاق، وأنه على الفرض الأول لا بد أن يكون لله هو أيضا مسبِّب أوجده، وعلى الفرض الثانى لا بد أن يكون الكون من حولنا هو الله، الذى لا سبب له. ولكن من قال إنه لا بد أن يكون لكل شىء بإطلاقٍ سبب؟ إن هذا إنما يصدق على ما نراه أو نلمسه أو نشمه وما إلى ذلك مما يقع تحت إدراكنا، وإن الذين يتخذون هذه الحجة إنما يقصدون أنه لا بد من الانتهاء إلى السبب الذى ليس له مسبِّب، وهو الله، إذ مما لا يقبله العقل أن نظل نمضى فى تتبع الأسباب إلى ما لا نهاية. أما قوله إن مسألة السببية ليست بالبساطة التى كان يظنها الناس، فأغلب الظن أنه يقصد ما يقوله بعض الفلاسفة، وهو منهم، من أن تتابع اشتعال النار والإحراق، أو تتابع تناول الطعام والإحساس بالشبع مثلا لا يعنى أن النار هى سبب الإحراق ولا أن الطعام هو سبب الشبع. لكن القول بهذا لا يستلزم أنه لا علة لأى شىء، إذ يمكن الموافقة على ذلك والنظر إلى مثل تلك التعبيرات على أنها تعبيرات مجازية لا تعنى أن النار هى سبب الإحراق ولا أن الطعام هو سبب الشبع، بل تعنى أن الإحراق يتم لدى وجود النار، وأن الشبع يقع عند تناول الطعام، وأن الله، الذى هو السبب الحقيقى لكل ما يقع فى الكون، هو مَنْ قدّر تحقق الإحراق عند وجود النار، وقضى بحدوث الشبع عند أكل الطعام. وقد قلنا قبل قليل إن التسلسل إلى ما لا نهاية فى تتبع أصل وجود الأشياء أمر يرفضه العقل، وهنا لا يبقى أمامنا إلا حلان: فإما أن نقول إن العالم الذى يوجد من حولنا هو الله، وإما أن يكون الله هو الإله الذى نؤمن نحن به فى الإسلام (ولا علاقة لنا بالإله فى المعتقدات الأخرى التى لا نومن بها). فأى الحلين هو الذى يقبله العقل؟ هل يقبل العقل أن يكون الله هو ذلك الكون الغشيم الذى لا عقل له ولا إرادة ولا قدرة على شىء؟ ألا نرى نحن البشر أننا أرقى ما فى الكون من مخلوقات، مع إدراكنا فى ذات الوقت أننا ضعفاء بل عاجزون أمام الحياة وأننا مجبرون فى كثير من أمورنا لا نملك حيالها شيئا، وأننا ننتهى دائما إلى الموت؟ فنحن إذن لا يمكن أن نكون الله، علاوة على أن الله لا يمكن أن يتجزأ أو يكون محدودا فى وجوده وقوته وقدرته وإرادته وعلمه وسلطانه كما هو حالنا الذى يصعب على الكافر. أما الحل الثانى فهو أن يكون هناك إله ذو وجود وقوة وقدرة وحكمة وعلم وسلطان مطلق، إله لا يحتاج إلى غيره ولا ينتظر عونا من أحد ولا يصيبه كلال ولا تعب ولا حيرة ولا تتخلف مشيئته كما نرى ذلك متحققا فى الكون من حولنا. أعتقد أن المسألة ينبغى أن توضع على هذا النحو لا على النحو الذى صوره لنا رَسِلْ!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير