تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأسباب، فإن السبب بطبيعة الحال لن يكون شيئا آخر غير خَلْقِ أفضل الأكوان، وهو ما لا صحة له البتة. ولكن إذا كان ثم سبب لما يقدّره الله من قوانين فمعنى ذلك أن الله ذاته يخضع للقانون، وبالتالى لن تكون هناك أية جدوى من اتخاذ الله وسيطا لأنه سيكون هناك حينئذ قانون خارج عن الله وسابق عليه، ولن يكون لله فى هذه الحالة أية فائدة لأنه لن يكون المصدر النهائى للقوانين. باختصار: لم تعد القوانين الطبيعية الآن تعنى ما كانت تعنيه من قبل".

والواقع أنه لو لم يكن هناك قوانين وكانت الأمور تجرى على المصادفة كما يقول رَسِلْ فمعنى ذلك أن من المستحيل على البشر اتخاذ أى قرار أو الإقدام على أى تصرف، إذ إن القرارات والتصرفات تتطلب أن يكون هناك نظام مطرد حتى يستطيع الواحد منا رسم خطة مضادة يبنى عليها قراره وسلوكه. وتصور أنك قمت من النوم وأردت أن تبدأ يوما جديدا ففوجئت أن أحوال الكون قد تغيرت عما كنت قد عهدته وأنه لم تعد هناك قوانين ولا أنظمة، بل كل شىء يتم عشوائيا لا يمكن التنبؤ بمساره ولا بكيفيته ولا يمكن وضع خطة لمواجهته كى نحصد منه أكبر قدر ممكن من المكاسب ونتجنب أكبر قدر من المشاكل والخسائر. بل إن الخطط نفسها فى هذه الحالة لن يكون لها معنى ولا مصداقية، إذ لا نظام هناك ولا ثمار لأى شىء بما فيها الخطط. أمن الممكن أصلا فى هذه الحالة أن تكون هناك حياة؟ يقول رسل إن فَهْمنا للقوانين قائم على الوهم. لكن هناك رغم ذلك نظاما ما نستطيع أن نستند إليه ونقيم عليه حياتنا أيا ما يكن رأينا فى هذه الحياة. ذلك أن هذه الحياة التى لا تعجبنا أفضل مليارات المرات من الحياة الأخرى التى لا وجود لها إلا فى عقل رَسِلْ، تلك الحياة التى لا يمكن التعامل معها ولا اتقاء متاعبها أو الفوز بأى من خيراتها. وهذا إن جاز أن يكون لمثل تلك الحياة معنى أو كانت تشتمل على أية خيرات، أو كان لها وجود أصلا.

أما ما يقوله رَسِل عن الله وصلته بقوانين الطبيعة فهو صادر عن قياسه لله سبحانه على البشر، على حين قد رأينا أنه لا بد فى نهاية المطاف، ومهما طالت سلسلة الأسباب المترتب بعضها على بعض، من إله مطلق أزلى لا حاجة به إلى مسبِّب ولا يصلح معه القول بأنه كان خاضعا لهذا الاعتبار أو ذاك عند اختياره لهذا القانون أو ذاك. أما زراية رَسِلْ بتصورنا وجود مصدر للقوانين وتفسير ذلك بأننا إنما نقيس قوانين الطبيعة على قوانين البشر فهى زراية فى غير محلها. ذلك أننا، حين نتجه تلقائيا إلى التفكير فى مصدر القوانين الطبيعية، إنما نتصرف التصرف المنطقى، إذ بدلا من التعامى عن السبب الأول المطلق، ذلك التعامى الذى يؤثره برتراند رَسِلْ، نجدنا بوحى من فطرتنا نبحث عن السبب. وإلا أفيعقل أن تحتاج حياتنا تلك الضيقة والعابرة إلى مُصْدِر للقوانين بينما يستغنى ذلك الكون الهائل الذى لا تُعَدّ دولنا جميعا شيئا إلى جانبه عن مُصْدِرٍ لقوانينه؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى المواضعات الاجتماعية التى أشار إليها رَسِلْ وظن أنه يستند فيها إلى حجة قاطعة، إذ إن وجود تلك المواضعات لهو دليل على أن حياتنا الضيقة العابرة كما سميتُها عن حق لا يمكنها الاستغناء عن نظام يكفل لنا فهمها والتعامل معها ومواجهة مشاكلها وجنى فوائدها. فما بالنا بالكون كله، وهذه الأرض التى نعيش فوقها لا تساوى بالقياس إليه شيئا البتة؟ على أن هناك أمرا طريفا فى كلام رسل، وهو تكرر ذكره لقوانين المصادفة. ترى أيكون للمصادفة قانون، ولا يكون ثم قانون لهذا النظام الذى يسرى فى كل شىء من حولنا؟ من يقول هذا؟ وأطرف من ذلك أننى أشعر بهدوء تام وأنا أناقش ما يقوله ذلك الفيلسوف الكبير، ولا أجد فى نفسى ضيقا به. ولعل فيما قلته عنه وعن مواقفه السياسية وما سطره عن الإسلام تعليلا لهذا الهدوء الذى أحسه بين جوانحى وأنا أحبّر هذا الكلام.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير