تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ونأتى الآن إلى تجويز رَسِلْ أن تتغير قوانين الطبيعة من الغد، وأنا معه فى هذا، ولا أجد فى تغير تلك القوانين يومًا من الأيام ما يصدم عقلى، فلقد وضحتُ أن القوانين الطبيعية لا تعنى مثلا أن فى النار ذاتها خاصة الإحراق، بل أن الله هو الذى رتب حدوث الإحراق على وجود النار. وهذا ما كان يقول به الإمام الغزالى وبسطه فى كتابه: "تهافت الفلاسفة" على النحو التالى: "الاقتران بين ما يُعْتَقَد في العادة سببا وما يُعْتَقَد مسبِّبا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الرِّيّ والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهِّل ... وهَلُمَّ جَرًّا إلى كل المشاهدات من المقترِنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف. وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه يخلقها على التساوق لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفرق، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة ... وهلم جرا إلى جميع المقترنات. وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته. والنظر في هذه الأمور الخارجة عن الحصر يطول، فَلْنُعَيِّنْ مثالا واحدا، وهو الاحتراق في القطن مثلا مع ملاقاة النار. فإنا نجوِّز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق، ونجوِّز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار، وهم ينكرون جوازه".

ويمضى، رحمه الله، فى الرد على دعوى الخصم بأن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار، مؤكدا أن "فاعل الاحتراق بخلق السواد في القطن والتفرق في أجزائه وجَعْله حُرَاقًا أو رمادًا هو الله: إما بواسطة الملائكة أو بغير واسطة. فأما النار، وهي جماد، فلا فعل لها. وهذا يكون بالحصول عنده لا بالحصول به. فما الدليل على أنها الفاعل، وليس له دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به وأنه لا علة سواه؟ ".

وإمامنا الغزالى، بهذا الكلام الذى ينفى فيه أن تكون فى النار خاصة الإحراق، مؤكدا أن الأمر مجرد تتابع بين وجود النار أولا فالإحراق ثانيا، قد سبق دافيد هيوم وبيركلى وبرتراند رسل ذاته بزمن طويل، إلا أن فيلسوفنا المسلم يعزو كل شىء فى هذا الأمر إلى مشيئة الله التى اقتضت هذا التتابع واطراده حتى الآن بما خيل للناس بوجه عام أن النار ذاتها هى سبب الإحراق. وفى هذا الصدد يقول هيوم: "إذا ما ارتبط شيئان ارتباطا لا تخلف فيه كالحرارة واللهب مثلا، أو الثقل والصلابة، فإن العادة وحدها عندئذ تقتضينا أن نتوقع أحد الشيئين إذا ما ظهر الآخر". ومن ثم فعنده أن "العادة هي المرشد العظيم للحياة البشرية. فهذا المبدأ وحده (أي العادة) هو الذي يجعل خبرتنا ذات نفع لنا، ويتيح لنا أن نتوقع في المستقبل سلسلة من الحوادث الشبيهة بسلسلة الحوادث التي ظهرت فيما مضى". فنحن قد تعودنا مثلا أن نرى الورق يحترق حينما نقربه من النار، فنتوقع من خلال هذا التعود احتراقه مستقبلا حينما نقربه من النار. وهذا التوقع احتمالي عند هيوم، إذ ليست هناك ضرورة عقلية في نظره توجب أن يحترق الورق بالنار مستقبلا، بل يمكن أن لا يحدث ذلك في المستقبل. ومن ثم فحينما نتوقع أحداث المستقبل استنادا إلى الخبرة الحالية فإن توقعنا ساعتئذ يكون من قبيل الاحتمال لا اليقين. وهذا هو ما يقوله الغزالى بفصه ونصه. وأرجح الظن أن هيوم ورسل قد قرآ فيلسوفنا المسلم: إما مباشرة وإما من خلال وسيط، إذ من الصعب عقلا أن نقول بأن هذا ليس إلا توارد خواطر، وبخاصة أن الغزالى معروف جيدا للغربيين عن طريق المستشرقين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير