تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وحتى لا يسارع بعض الملاحدة السفهاء، وكثيرٌ ما هُمْ، إلى التشنيع على القائلين بذلك بأنهم يقولون بكونٍ قائمٍ على اللانظام أقول مرة أخرى بملء فمى وبأعلى صوتى: إن الكون قائم على نظام عجيب وقوانين مطردة، ولكن هذه القوانين لا تنبع من الأشياء ذاتها، بل من إرادة الله، الذى سوف يأتى يوم يبطل فيه تلك القوانين ويبدع قوانين أخرى تختلف عنها كما نجد ذلك فى القرآن والسنة. ذلك أنه لن يكون فى الجنة مثلا ملل ولا ضيق ولا حزن ولا قلق ولا حقد ولا مغص ولا جوع ولا عطش ولا برد ولا حر ولا حرمان ولا نقص ولا ألم ولا رائحة كريهة ولا منظر منفر ولا موت ولا خصام ولا عدوان ... إلخ، وهو ما تختلف به الجنة اختلافا كليا وجزئيا عن الدنيا. وقد أشار القرآن إلى أنه يوم القيامة سوف "تُبَدَّل الأرضُ غيرَ الأرض والسماواتُ". ذلك أنه ما دامت القوانين لا تكمن فى الأشياء كمونا طبيعيا ملازما فمعنى ذلك أن الله المطلق السلطان الذى أصدر للأشياء الأمر بأن تكون على ذلك النحو يمكن أن يصدر لها الأمر بأن تكون على نحو غير ذلك فى الوقت الذى تقدره مشيئته سبحانه وتعالى. وبالمناسبة فبرتراند رَسِلْ، كما أشرنا قبيل قليل، هو من القائلين بذلك أيضا، إلا أنه على عكس الغزالى المؤمن كان ملحدا ينكر وجود الله والحياة الآخرة.

ويمضى الفيلسوف الإنجليزى الكبير فيناقش دليلا آخر مما يتخذه المؤمنون دليلا على وجود العناية الإلهية، وهو دليل التصميم. وهذا نص كلامه: "الخطوة التالية من استعراضي للفرضيات لابد أن توصلني إلى جدلية التصميم. إنكم تدركون جميعا أن فرضية التصميم تقتضي أن كل شيء في هذا العالم تم تصميمه من أجل أن نعيش وفقا له، ولو أن العالم اختلف قليلا عن صورته الحالية لما استطعنا أن نعيش فيه. هذه هي جدلية التصميم، التى تأخذ أحيانا شكلا مثيرا للفضول. فمثلا يقال إن الأرانب قد خُلِقَتْ بذيول بيضاء كي يسهل اصطيادها، ولكننى لا أعرف كيف تنظر الأرانب إلى هذا الوضع. إنه أمر يبعث على السخرية. وأنتم جميعا تعرفون ملاحظة فولتير، وهو أن الأنف قد خُلِق ملائما لحمل النظارة! وقد ظهر أن هذا النوع من السخرية لم يبتعد كثيرا عن إصابة الهدف كما كان يُظَنّ فى القرن الثامن عشر، لأنه منذ داروين بدأنا نفهم بشكل أفضل كثيرا لماذا تتكيف الكائنات الحية مع بيئاتها. وهذا يعني أن البيئة ليست هي التى تكيف نفسها من أجل الكائنات، بل الكائنات هى التى تكيف نفسها مع بيئتها. وهذا هو أساس التكيف البيئي. ولا وجود فيه، كما نرى، لأي دليل على التصميم".

أما أنا العبد لله الضعيف فأقول مع احترامى الكامل لرَسِلْ، الذى كلما نظرت إلى صورته وقد أصبح عجوزا جدا، وفى فمه المتغضن غليونه المشهور يخفف به قليلا من شعوره بالشقاء الذى وصفه لنا فى سيرته الذاتية، لا أملك نفسى من العطف عليه رغم اختلافى الشديد معه فى موقفه من الألوهية، وإن كنت لا أختلف معه كثيرا حول وجود الشقاء فى العالم، ومن ذا الذى يجرؤ على أن ينكره أو يجادل فيه؟ لقد قالها القرآن نفسه بكل وضوح لآدم والسيدة حَرَمه منذ البداية: إياكما أن يخرجكما إبليس من الجنة، وإلا شقيتما، بما يفيد بمنتهى الصراحة أن الدنيا ليست دار سعادة كاملة، وإن لم تكن أيضا دار شقاء تام، بل هى، حسبما نرى، مزاج من هذا وذاك. ولم نذهب بعيدا؟ إننى، أثناء كتابتى هذا الرد على رسل، لأشعر بنشوة عجيبة وأنا أحاور عقلا كبيرا كعقل رَسِلْ فى موضوع كبير كموضوعنا ذاك. فهذا إذن لون من السعادة الدنيوية لا شك أيضا أنه كان يستمتع به وهو يعد محاضرته التى نحن بصددها، وكذلك وهو يلقيها، مثلما كان يحس بالسعادة حين اهتدى، أو فلنقل دون أن نقصد إغاظته: حين هداه الله إلى إديث فينتش، زوجته الرابعة التى أهدى لها "سيرته الذاتية"، والتى تقول كلمة الإهداء إنه يدين لها بشىء غير قليل من السعادة فى دنياه تلك التى يحاول أن يقنعنا أنها مفعمة تماما بالشقاء بحيث لا يوجد فيها ولا ثَقْب إبرة يمكن أن ينفذ منه بصيص من البهجة. أمعقول يا فيلسوفنا أنك لم تذق مثلا مع أى من زوجاتك لذة الفراش ولو مرة، وأن دنياك كانت خالية معهن من كل نشوة؟ ودَعْنا من غير زوجاتك يا رجل يا نِمْس! ألم تستمتع مثلا بزوجة تى إس إليوت، الذى يقلده القِرَدة عندنا تقليدا أعمى مباهين بهذا التقليد، شأن كل قرد

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير