تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أقرع؟ وهذه مجرد حلقة واحدة فى سلسلة عشيقاتك يا عفريت! وحتى حين دخلتَ السجن (ولأعترف هنا أننى لا أحبه، ولا أريد أبدا أن أذوقه) ألم تكن تشعر بالرضا والسكينة لأنك استطعت، بمعونة الله طبعا رغم إنكارك وجوده، أن تتحمل متاعبه وما تجره هذه المتاعب وراءها من ألوان الحرمان والعناء المختلفة فى سبيل مبدئك؟ هكذا ترى يا فيلسوفنا الكبير، الذى أشعر والله بالعطف عليه وعلى نفسى معه أيضا، أن الدنيا، حتى فى أشد ظروفها حلوكة، يمكن أن تمد صاحبها بكِفْلٍ غير قليل من السعادة والرضا.

والآن إلى المناقشة، التى أرجو ألا تفسد للود بينى وبين الفيلسوف البريطانى أية قضية، فأقول: لنفترض أن الأمر كما قال رَسِلْ بناء على نظرية داروين، وأن الكائن هو الذى يتكيف مع بيئته، وليست البيئة هى التى خُلِقَتْ مناسبة له، فهل ينال هذا من قيمة الدليل التصميمى؟ لا إخال ذلك أبدا. كيف؟ أليست المحصلة النهائية أن الكائن ينجح فى التعايش مع بيئته؟ بَلَى والله وأَلْفُ بَلَى. فهذا هو دليل التصميم، ولكن على شكل آخر، وهو أن الله سبحانه وتعالى، حين أبدع مخلوقاته، جعلها مهيأة للعيش فى كل الظروف، واهبا إياها المقدرة على التكيف معها. فما المشكلة إذن؟ أما كلام رَسِلْ فمَحْضُ تحكُّم لا معنى له، وهو ما يذكرنى بما يقوله العامة عندنا: أَكْل وتبريق! وهذا إن كان الأمر على ما يقول، وهو ليس كذلك فى الواقع، وإلا فلماذا لم يوزع الله كل الكائنات على كل الأمكنة فى العالم دفعة واحدة، وعلى كل منها أن تتأقلم مع ظروف كل مكان؟ لماذا مثلا لم يضع الله عز وجل الإنسان فى قلب لهيب الشمس؟ أو لماذا لم يجعل معيشته فى باطن الأرض مغروسا فى الطين كما هو حال كثير من الديدان مثلا؟

واضح أن التكيف البيئى الذى يشير إليه رَسِل استنادا إلى داروين ليس معناه أن الكائن يغير نفسه تغييرا جذريا ليتلاءم مع بيئته، وإلا لرأينا للإسكيمو مثلا جلودا سميكة كجلود الدِّبَبَة القطبية حتى يستطيعوا تحمل البرد الرهيب هناك، وهو ما لا وجود له، بل كل ما هنالك أنهم قد عملوا على تحوير آلاتهم وأدواتهم ومرافقهم بحيث تعينهم على مواجهة مصاعب تلك البيئة، فكانت أحذيتهم ووسائل مواصلاتهم وبيوتهم مختلفة فى التصميم والمواصفات عما لدينا من أحذية ومواصلات وبيوت ... وهكذا. أما هم أنفسهم فلا يفترقون عنا فى شىء، إذ ما زالت لهم عينان كعينينا، وأنف كأنفنا، ويدان كيدينا، وذَكَرٌ كذَكَرنا، واسْتٌ كَاسْتِ القُمَّص المنكوح، إلا أنهم ليسوا مناكيح مثله، ويأكلون من فمهم كما نأكل نحن من فمنا، ولهم فى كل فم ست وثلاثون سِنًّا كما لنا، ويحتاجون إلى الحمام كما نحتاج نحن أيضا، ولهم طموح وآمال ومخاوف وقلق وحزن وملل، وفيهم لصوص وقتلة وناس طييون وكتاب وقراء، ولديهم مطاعم وفنادق، كما لنا وفينا ولدينا بالضبط ... إلخ.

أما بالنسبة إلى الأرانب ذات الذيول البيضاء التى ضربها رَسِلْ مثلا على التعاسة فما أكثر ما تستمتع رغم هذا بالشمس الدافئة والهواء الطلق والعشب الغزير والجرى فى الغابة تمرح كما يحلو لها. نعم إن ذلك كله مصيره إلى انتهاء، وقد تكون النهاية ذبحها وأكلها، لكن ألم تستمتع هى قبل ذلك؟ بلى لقد استمتعت، ونعم لقد انتهت فى كثير من الأحيان إلى المصير المذكور. لكن أتراها فى هذا تختلف عمن صادوها؟ ألا يستمتعون هم أيضا، ثم ينتهون إلى الموت، وربما القتل، كما تنتهى هى؟ سيقول رَسِلْ: ومع هذا فإن فى الدنيا شقاء وتعاسة. لكن هل خالفناه فى هذا؟ إن كل ما نخالفه فيه هو أنه يركز فقط على ألوان الشقاء، وكأن الدنيا كلها حالكة السواد، فلا لقمة شهية ولا منظر جميل ولا شذى حلو ولا ملمس ناعم ولا رقدة هنية ولا يقظة بهيجة ولا جماع لذيذ ولا أولاد يملأون البيت على الأب والأم سعادة ونورا وأنغاما ولا كتاب مثير للعقل والوجدان ولا صلاة تبعث السكينة فى النفس ولا تضحية من أجل مبدإ جليل ولا أبناءٌ لطافٌ ولا رحلة بهيجة ولا تأمل فكرى لذيذ. إننى لأتألم غاية الألم حين تصيبنى بَلِيّةٌ من بلايا الدنيا، وما أكثرها! وأتقلب على جمر الحرقات ساعتئذ تقلبا، إلا أننى سرعان ما أفىء إلى الواقع من حولى قائلا لنفسى: لِمَ تنسى كذا وكذا وكذا مما حباك الله به (أو فلنقل كى نضحك قليلا مع رَسِلْ: مما حبتك به الطبيعة) يا فلان، وهو كثير، والحمد لله؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير