تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكى أبين للقارئ أن حياة الأرانب والعجماوات جميعا ليست كلها شقاء كما يحاول رسل أن يقنعنا أذكر له أننى، فى صيف عام 1976م، ذهبت فى بعثة إلى بريطانيا للحصول على الدكتورية فى النقد الأدبى، فبدأنا نأخذ دروسا فى الإنجليزية بلندن، ثم انتقلنا إلى ميناء هيستنج لنكمل أخذ هذه الدروس، فكنت فى الفسحة التى تفصل درسًا عن درسٍ آخر النهار أجلس فى ردهة المدرسة، وقد اكتست الدنيا فى الخارج عَتَمَةً، وبدا كأن المغرب قد جاء، فأنظر عبر النافذة إلى منارة صغيرة على الشاطئ متوهما فى كل مرة أنها مئذنة وأن أذان المغرب سوف يرتفع بعد قليل. على أن هذه ليست النقطة التى أريد الحديث فيها، بل النوارس التى كانت تحوم على الشاطئ قريبا منا والتى، وهذا هو بيت القصيد، كنت أحسدها على ما تتمتع به من حرية وقدرة على التحليق فى أجواز الفضاء، على حين أجد نفسى مقيدا بجاذبية الأرض لا أملك طيرانا. أما حسدى إياها فلأنى كنت أتصور أننى لو رُزِقْتُ مثلها المقدرة على الطيران لكان باستطاعتى أن "آخذ بعضى" طيرانا على مصر، التى كنت أشعر آنئذ بحنين جارف مؤلم نحوها، ودون الحاجة إلى تذكرة سفر أو تأشيرة أو إجراءات معقدة فى الخروج والدخول. خلاصة القول أن العجماوات ليست تعيسة الحياة تماما كما يخيِّل لنا كلام رسل، إذ هى تتمتع بكثير مما حُرِمْنا نحن البشر منه حتى إننا لنحسدها على كثير مما حباها الله (أو كما يقول رَسِلْ وأشباهه: مما حبتها الطبيعة) به.

وبعد الأرانب ذات الذيول البيضاء يأتى ونستون تشرشل وأضرابه من ذوى القلب السوداء، ذلك الاستعمارى البغيض الذى ضربه رَسِِلْ مثلا على أن الحياة كلها شقاء وتعاسة. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد كان رَسِلْ يناصر الحركة الاستعمارية فى مطلع حياته، ثم انقلب معاضدا لحركات التحرر الوطنية ضد بلده وضد العالم الغربى عموما، وهو ما يُشْكَر عليه. لكن هل كان تشرشل، رغم أننا فى عالمنا العربى والإسلامى قد اصطلينا نار نزعته الاحتلالية وشقينا بها أيما شقاء، خلوا تماما من أى نفع؟ لقد كان كاتبا سياسيا وأديبا قوى الأسلوب. ولا شك أنه، بهذا الاعتبار، كان ذا فائدة لبعض البشر. كذلك قرأت ذات مرة أنه كان يصدر أوامره لمجلس الحرب بوصفه رئيسا للوزراء وهو فى بيت الأدب (أو إذا شئتم: بيت قلة الأدب والقيمة!) يقضى حاجته كيلا تفوت الفرصة إذا انتظر حتى ينتهى مما هو فيه فيَصْدُر الأمر بعد خراب بصرة. فلو لم يكن له إلا هذا التصرف الذى أضحكنى وما زال يضحكنى حتى هذه اللحظة وتغرورق عينى جَرّاءه بالدموع لكان هذا كافيا كى أعلم أن خَلْقه فى الدنيا لم يكن سُدًى! ومع هذا فلعنة الله على ذلك العلج الاستعمارى، إن لم يكن من أجل شىء فكيلا يغضب منى رَسِلْ.

لكن ذلك الإبليس لا يتحمل هو وأمثاله وحدهم إثم الاستعمار، وهو بلا أدنى ريب أو جدال إثم بشع لا يطاق، بل تتحمله معه الأمم التى ابتليت به فرضيت بالهوان بل استعذبته، وكلما أخذت صفعة على خد من خديها أدارت الخد الآخر كى يأخذ هو أيضا نصيبه من الهوان والخزى فتكون قد تقلبت فى الخزى على الجانبين ولم يفتها شىء منه كما هو حال أمتنا أمة الزفت والهوان، التى من الواضح أنها باتت خارج التاريخ منذ استنامت إلى المذلة على يد حكامها الوطنيين (أقصد: المُسَمَّيْنَ زورا بـ"الوطنيين"، وما هم فى الحقيقة إلا عصابة من الجهلة الأفاكين، لعنهم الله ولعن معهم شعوبهم التى يحكمونها أجمعين أكتعين أبصعين!)، وكذلك على يد مستعمريها الخارجيين، وصارت مشكلتها من التعقيد بحيث إننى لا أكف عن الألم والمرارة طوال الوقت حتى وأنا أتريض تجنبا للإصابة بالسكر وانسداد الشرايين، غير واجد لوضعها هذا البائس حلا، إذ كيف يمكن أن تُحَلّ مشكلتها، وهى نفسها لا تريد لها حلا، بل لا تحاول أن تساعد من يتصدى لإصلاح أحوالها فتتركه يدخل السجن أو يُعْدَم دون أن تجشم نفسها ذرف دمعة من دموعها الرخيصة عليه، منصرفة إلى الكرة والرقص والطبل والزمر والحشيش والأفيون؟ ولنعد إلى ما كنا فيه، وإلا ساءت صحتى أكثر وأكثر، وساعتئذ لن أجد من جماهير الأمة من ينفعنى ببصلة!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير