تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كذلك يستنكر رسل أن يكون العالم الذى حولنا بعيوبه ونقائصه هو كل ما استطاع الله بعلمه المطلق وقدرته التى لا يحدها حد أن يخلقه فى الملايين بعد الملايين من السنين، مؤكدا أنه لو أُعْطِىَ قدرة وعلما بلا حدود وصُبِرَ عليه ملايين السنين فإنه قادر على أن ينتج كونا أفضل من هذا. وهذا يذكرنى بما كان يقوله أحد رجال القرية، وكان زمّارا فى فرقة المزيكة التى يرأسها عمه، ثم كُسِرت أصابعه فترك العزف على المزمار ولم يعد صالحا لعمل أى شىء، فكانت زوجته المسكينة هى التى تسعى عليه وتوفر له الشاى واللحم، اللذين لو تخلفا عن الميعاد كان جزاؤها الشتم والضرب وقلة الأدب. والشاهد فى الأمر أنه كان دائما، رغم مواظبته على الصلاة والصيام، فضلا عن التأذين للصلاة بصوته الجميل، كثير التمرد على مقام الربوبية، زاعما أنه لو تولى أمر الكون لجعله أفضل من هذا كثيرا. يقصد أنه ساعتها سوف يوفر كيلو لحم وكيس شاى وباكو سكر لكل فقير أسبوعيا، ويا حبذا لو كان معها أيضا علبة سجائر أو ورقة معسل، فهذا هو أقصى ما يمكن أن يفكر فيه زمّارنا، الذى كنت أعطف عليه وأستطيب صحبته وأتغاضى عن حماقاته وغروره الغبى.

المضحك فى دعوى رَسِلْ أنه يقول: "لو" أُعْطِيت كذا وكذا، إذ الإله لا يقول ذلك لأنه لا يأخذ شيئا من أحد، بل هو الذى يعطى، ويعطى دائما. ثم إن "لو" تفتح عمل الشيطان. كما أنها، طبقا لما يقوله جهابذة الإعراب الصِّيَاعِىّ، "حرف شعلقة فى الجو". والكون، رغم ما فيه من مآس لا ينكرها أحد، يدل على خالق قدير عليم حكيم رحيم جبار منتقم شديد. وليلاحظ القارئ أننى لم أجتزئ بذكر الحكمة والقدرة والرحمة الإلهية وحدها، بل ذكرت معها الجبروت والانتقام أيضا، فهذه هى صفات الله. ولقد حار الفلاسفة والحكماء، ومعهم الطبالون والزمارون، فى بحثهم عن السر فى وجود المعاناة والألم فى الدنيا، ولم يرجعوا بطائل، ولا أظنهم سوف يرجعون به يوما. فَلْنَكُفَّ عما لا جدوى منه كما قال العقاد فى بعض شعره عن ذلك الموضوع، فهذا هو حال العالم الذى حولنا، ولنركز على أن نجتهد بكل طاقتنا كى نستخرج منه أحلى ما فيه ونتجنب أسوأ ما يحتويه، أو ننزل بنصيبنا من هذا الجانب السيئ فيه إلى أصغر درجة ممكنة على الأقل، "ونعيش ونقول: يا باسط! "، مع رجائى من القراء أن يتولى أحدهم مشكورا ترجمة العبارة الأخيرة لرَسِلْ حتى يفهم عنى ولا تضيع نصيحتى على الفاضى!

وهنا نسمع رَسِلْ يؤكد، وكأنه يقول شيئا جديدا على المؤمنين، أن الحياة على الأرض مصيرها إلى انتهاء. لكننا نعرف هذا يا فيلسوفنا العزيز من قبل ونؤمن به، وكنت أنت أيضا تؤمن به أيام كنت متخلفا مثلنا، وهو ما نسميه: يوم القيامة. فما الجديد فى هذا إذن؟ إلا أن المسألة بالنسبة إلينا لا تقف عند انتهاء الحياة، بل اعتقادنا أنه ستبدأ حياة أخرى بعد دمار هذا العالم، الذى سوف يعاد رغم ذلك تشكيله من جديد بأوضاع أخرى نرجو أن تعجب رَسِلْ، وزمارنا المسكين، الذى أدعو له الله العَفُوّ الغفور الودود الحليم الرحيم الكريم أن يجد عندئذ الشاى والسكر واللحم بوفرة تبعث على الطمأنينة وارتخاء الأعصاب، ولا داعى للمعسل لأنه ضار، وذوقه بلدى، علاوة على أن شاربه يقضى النهار والليل فى السعال والبصق فيزعجنا، ونحن لم نكد نصدق أننا قد تركنا الدنيا ببلاياها!

وعلاوة على هذا فإنى آخذ على رَسِل أنه، حين يذكر المسلمين أو يريد الإشارة إليهم فى هذه المحاضرة، يستعمل كلمة " Mohammedans: المحمديين". وهذا خطأٌ صُرَاحٌ، ويزيده سوءا صدروه عن رَسِل الفيلسوف الذى تقوم فلسفته هو وأشباهه من الفلاسفة على وجوب تحديد الألفاظ قبل استخدامها منعا لأى لبس أو اضطراب. فهل من تحديد الألفاظ تحديدًا سليمًا أن يُطْلَق علينا نحن المسلمين اسم "المحمديين"؟ إن كل دور رسولنا عليه الصلاة والسلام طبقا لمعتقد الإسلام، الذى جاء به، هو أنه واحد من البشر تلقى الوحى من الله سبحانه وأنه المثال الأعلى لأولئك البشر. فلا هو إذن صاحب الإسلام ومخترعه ولا نحن نؤلهه أو نرتفع به عن مستوى البشرية بأى معنى من المعانى ولا إلى أى مدى من الأمداء، وذلك امتثالا لقوله تعالى: "قل: إنما أنا بشر مثلكم يُوحَى إلىّ أنما إلهكم إله واحد". وعلى هذا فليس هناك أى أساس يمكن الاستناد إليه فى إطلاق كلمة "المحمديين" علينا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير