تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم يقول رَسِلْ إن الذين يؤمنون بالله إنما تم تلقينهم منذ طفولتهم الأولى الإيمان به سبحانه، فهم من ثم يتبعون ما لُقِّنوه لا يحيدون عنه، بخلاف الملاحدة، فإنهم يختارون طريقهم بأنفسهم. ولى على ذلك ملاحظتان: الأولى أن أمثاله من الملاحدة لا شك يربون أولادهم على الإلحاد، إذ كل أب وأم إنما يربيان أولادهما عادة على ما يؤمنان هما به. ومن ثم فقوله إن الملحدين إنما يختارون طريقهم بأنفسهم غير صحيح على إطلاقه على الأقل. والثانية، ألم يسأل رسل نفسه: لماذا كان الإيمان هو الغالب على الناس بحيث يفترض هو نفسه أن الآباء جميعا (تقريبا، و"تقريبا" هذه من عندى) ينشئون أولادهم على الإيمان لا على الكفر؟ أليس لهذا دلالته؟ وإلا فما مصلحة الناس فى إيثار الإيمان على الإلحاد؟ طبقا لما قاله هو لا أنا. الجواب لديه: "أن السبب الأقوى بعد ذلك وراء إيمان البشر بالله هو الرغبة فى السلامة. إنه نوع من الشعور بأن لك أخًا أكبر يقوم برعايتك. وهذا الأمر له دور عميق في التأثير على رغبة الناس في الإيمان بالله". لكن الله ليس أخا أكبر، وإلا ففى كل أسرة أخ أكبر يمكن أن يقوم بهذا الدور. ولنفترض أننا قبلنا جَدَلاً هذه الحجة، فكيف نفسر حاجة الإخوة الكبار والآباء والأمهات والأجداد والجدات والأغنياء والأصحاء وذوى المناصب الضخمة والقادة والزعماء والرؤساء والقضاة والوزراء وكل كبير من الكبراء والجماعات والأمم والدول إلى الإيمان بالله؟ إن العالم كله تقريبا يؤمن بالله حتى لو لم يشتغل بهذا الأمر اشتغالا واضحا، وحتى لو أخطأ الطريق إليه. والسبب هو أن ثمة نزوعا فطريا نحو البحث عن الخالق، إذ إن أمور الكون لا تستطيع أن تمشى دون هذا الخالق. فمن أين أتى هذا النزوع الفطرى؟ ألم يسأل رَسِلْ نفسَه هذا السؤال؟ وبالمناسبة فقد كان الأخ الأكبر لرَسِلْ يثير لديه الخوف لا الطمأنينة كما حدّثنا فى الفصل الأول من سيرته الذاتية. فما القول فى ذلك؟ أليست هذه مفارقة مضحكة؟

بعد هذا ينتقل رَسِلْ إلى البحث فى موضوع آخر، وهو الحكم على شخصية المسيح عليه السلام. وهو، بطبيعة الحال، لا ينطلق فى الحكم عليه من أنه إله، فالرجل لا يؤمن بالألوهية أصلا كما رأينا، فضلا عن أن ينظر إلى المسيح على أنه إله. بل إنه لا يعده نبيًّا. وهذا أمر طبيعى، فمنكر الألوهية ينكر النبوات حتما. ليس ذلك فحسب، بل إنه ليخطو خطوة أبعد، إذ ينفى أن يكون المسيح مثالا أعلى للبشر، فهو فى نظره ليس أحكم الحكماء، بل إن فى سلوكه ومبادئه ما لا يقبله العقل والضمير، بل ما يدل على توحش وقسوة شديدة غير مفهومة ولا مسوَّغة. وهو يبدأ بالهجوم الكاسح على ما تنسبه الأناجيل إليه من أنه إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، وأنه لا ينبغى لأى إنسان أن يدين الآخرين كيلا يدان هو أيضا ... وأمثال ذلك، مؤكدا أنه لم ير مسيحيا فى حياته يتخذ التسامح مع الآخرين مبدأ له فى الحياة، وأنه هو نفسه لا يستطيع أن يفعل هذا، وأنه على العكس من ذلك كثيرا ما رأى مسيحيين يظلمون الآخرين دون أن تختلج ضمائرهم أو يشعروا أنهم أتوا أمرا لا ترضاه المسيحية. وفوق ذلك نراه يشك حتى فى مجرد الوجود التاريخى للسيد المسيح عليه السلام.

فأما الشك فى وجود المسيح فلا نشاطره فيه، فالمسيح عندنا موجود حتى لو كانت الكتابات النصرانية عنه لا تبعث على الثقة، إذ لدينا مصدر آخر موثوق هو القرآن الكريم. وهو موثوق لأننا نؤمن به بعد تمحيصه من جهة المضمون والأسلوب، وبعد فحص شخصية الرسول محمد عليه الصلاة والسلام والاطمئنان إلى أنه لا يمكن إلا أن يكون صادقا، وإلا فما مصلحته فى ادعاء الوحى والنبوة والتعرض لكل ما تعرض له عليه السلام من أذى وعدوان وتكذيب وسباب ومؤامرات ومواجهة لقوى العالم كلها دون أى سند بشرى؟ وأما أن المبادئ التى ينسبها كتبة الأناجيل لعيسى بن مريم، صلى الله عليه وسلم، هى مبادئ غير قابلة للتطبيق فى أغلبها فنحن معه فى هذا الكلام قلبا وقالبا. وقد قلناه وقاله غيرنا كثيرا من قبل، فقالوا بكل صفاقة: اخرجوا من البلد!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير