تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكى يأخذ القارئ فكرة عن الترويع الذى كانت تنشره تلك المحاكم والتعذيب الذى كانت تنزله بمن تسوقهم أقدارهم السُّود إلى الوقوع فى براثن رجال الكنيسة نسوق هنا نصين هامين: الأول قصة كتبها الشيخ على الطنطاوى بعنوان "محمد الصغير" تصور طرفا ضئيلا من الجو الرهيب الذى عاش فيه المسلمون فى الأندلس أيام تلك المحاكم الوحشية. تقول القصة، وهى مروية بلسان البطل الصغير: "كنت يومئذ صغيرا لا أفقه شيئا مما كان يجري في الخفاء. ولكني كنت أجد أبي، رحمه الله، يضطرب ويصفر لونه كلما عدت من المدرسة فتلوت عليه ما حفظت من "الكتاب المقدس" وأخبرته بما تعلمت من اللغة الإسبانية، ثم يتركني ويمضي إلى غرفته التي كانت في أقصى الدار، والتي لم يكن يأذن لأحد بالدنو من بابها، فيلبث فيها ساعات طويلة لا أدري ما يصنع فيها، ثم يخرج منها محمر العينين كأنه كان يبكى بكاءً طويلا. ويبقى أياما ينظر إلىَّ بلهفة وحزن ويحرك شفتيه، فعل من يهم بالكلام. فإذا وقفت مصغيا إليه ولاّني ظهره وانصرف عني من غير أن يقول شيئا. وكنت أجد أمي تشيعني كلما ذهبتُ إلى المدرسة حزينة دامعة العين، وتقبلني بشوق وحرقة، ثم لا تشبع مني، فتدعوني فتقبلني مرة ثانية، ولا تفارقني إلا باكية، فأحس نهاري كله بحرارة دموعها على خدي، فأعجب من بكائها ولا أعرف له سببا. ثم إذا عدت من المدرسة استقبلتني بلهفة واشتياق كأني كنت غائبا عنها عشرة أعوام. وكنت أرى والديّ يبتعدان عني، ويتكلمان همسا بلغة غير اللغة الإسبانية لا أعرفها ولا أفهمها. فإذا دنوت منهما قطعا الحديث وحوّلاه، وأخذا يتكلمان بالإسبانية، فأعجب وأتألم، وأذهب أظن في نفسي الظنون حتى إني لأحسب أني لست ابنهما، وأني لقيط جاءا به من الطريق، فيبرّح بي الألم، فآوي إلى ركن في الدار منعزل، فأبكي بكاءً مرًّا. وتوالت علي الآلام فأورثتني مزاجا خاصا يختلف عن أمزجة الأطفال الذين كانوا في مثل سني، فلم أكن أشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم، بل أعتزلهم وأذهب فأجلس وحيدا أضع رأسي بين كفي، وأستغرق في تفكيري أحاول أن أجد حلا لهذه المشكلات حتى يجذبني الخوري من كم قميصي لأذهب إلى الصلاة في الكنيسة. وولدت أمي مرة، فلما بشرت أبي بأنها قد جاءت بصبي جميل لم يبتهج، ولم تَلُحْ على شفتيه ابتسامة، ولكنه قام بجر رجله حزينا ملتاعا، فذهب إلى الخوري، فدعاه ليعمد الطفل. وأقبل يمشي وراءه، وهو مطرق برأسه إلى الأرض، وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل، حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي، فرأيت وجهها يشحب شحوبا هائلا، وعينيها تشخصان، ورأيتها تدفع إليه الطفل خائفة حذرة، ثم تغمض عينيها. فحرت في تعليل هذه المظاهر، وازددت ألما على ألمي. حتى إذا كان ليلة عيد الفصح، وكانت غرناطة غارقة في العصر والنور، والحمراء تتلألأ بالمشاعل والأضواء، والصلبان تومض على شرفاتها ومآذنها، دعاني أبي في جوف الليل، وأهل الدار كلهم نيام، فقادني صامتا إلى غرفته، إلى حرمه المقدّس، فخفق قلبي خفوقا شديدا واضطربتُ، لكني تماسكت وتجلدت. فلما توسط بي الغرفة أحكم إغلاق الباب، وراح يبحث عن السراج، وبقيت واقفا في الظلام لحظات كانت أطول عليّ من أعوام، ثم أشعل سراجا صغيرا كان هناك، فتلفتّ حولي فرأيت الغرفة خالية ليس فيها شيء مما كنت أتوقع رؤيته من العجائب، وما فيها إلا بساط وكتاب موضوع على رف، وسيف معلق بالجدار. فأجلسني على هذا البساط، ولبث صامتا ينظر إليّ نظرات غريبة اجتمعت عليَّ هي ورهبة المكان وسكون الليل، فشعرت كأني انفصلت عن الدنيا التي تركتها وراء هذا الباب، وانتقلت إلى دنيا أخرى لا أستطيع وصف ما أحسست به منها. ثم أخذ أبي يديَّ بيديه بحنو وعطف، وقال لي بصوت خافت: يا بني، إنك الآن في العاشرة من عمرك، وقد صرت رجلا. وإني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك. فهل تستطيع أن تحتفظ به في صدرك، وتحبسه عن أمك وأهلك وأصحابك والناس أجمعين؟ إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال "ديوان التفتيش".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير