تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفى ختام المحاضرة يلح رَسِلْ على أن الدين مؤسَّس في صميمه على الخوف أولا وأخيرا: الخوف من المجهول، والخوف من الهزيمة، والخوف من الموت. ثم يقفز الفيلسوف البريطانى من ذلك إلى القول بأن الخوف هو أبو الوحشية. ومن ثم لا يرى أى عجب فى أن الدين والوحشية قد سارا معا يدا بيد. وهو يرى أن العلم قادر على مساعدتنا فى تخطي هذا الخوف الذي سيطر على عقول البشر لأجيال طويلة فلا نحتاج بعدها إلى البحث عن حلفاء وهميين في السماء، مكتفين بالعمل هنا على ظهر البسيطة لجعل هذا الكوكب مناسبا لنا فنتخذه بديلا من ملكوت السماوات الذي بشرتنا به الكنيسة طوال قرون.

وبادئ ذى بدء أعلن مخالفتى لرَسِلْ فى حملته الشاملة على الخوف، تلك الحملة التى لا ترى فى الخوف أية قيمة نافعة، مع أننا نجده، فى حالات كثيرة لا تحصى ولا تعد، ذا فائدة عظيمة محققة. ترى لو أن الطالب لم يخف من الرسوب فى الامتحان، أكان يستذكر دروسه ويتعلم؟ ترى لو أن الموظف لم يخف من العقوبة التى يمكن أن ينزلها به رئيسه، أكان يهتم بإنجاز ما هو مفروض عليه من مصالح الجمهور؟ ترى لو أن اللص لم يخف من القانون والمحاكم والسجون، أكان يمتنع عن سرقة الآخرين؟ ترى لو أن القاتل لم يخف من عقوبة الإعدام، أكان يتراجع عن إزهاق الأرواح البريئة؟ ترى لو أن المريض لم يخف من عاقبة المرض، أكان يذهب إلى الطبيب بحثا عن الشفاء؟ ترى لو لم يخف برتراند رسل نفسه من طغيان الكنيسة، أكان يلقى هذه المحاضرة؟ ترى لو لم يخف العلماء من عواقب المشكلات التى تواجه البشر فى كل مناحى الحياة، أكانوا يقومون ببحوثهم ويسهرون فى معاملهم جريا وراء اكتشافاتهم العلمية؟ ترى لو لم يخف رجال الجيش من هجوم أعداء وطنهم عليه، أكانوا يقضون ليلهم دون نوم حذرا من أن يفاجئهم عدو بلادهم على حين غِرّة؟ وهكذا يرى القارئ أن الخوف فى كثير من الحالات نعمة من النعم، وقيمة كبيرة لا يصح التحقير منها. نعم إن الخوف فى غير موضعه ضار، وقد يحول حياة الإنسان إلى جحيم. إلا أن ذلك لا يجوز اتخاذه تكأة للهجوم على كل ضروب الخوف، وإلا فما من شىء فى دنيا الناس إلا وله سياقات يصير فيها مزعجا بل مؤذيا، فهل نتخلص من كل شىء فى الدنيا لهذا السبب؟ وفى أمثالنا الشعبية: "من خاف سَلِم"، وهذه حكمة القرون المتطاولة التى لا يصح الاستهانة بها.

ونصل إلى الخوف من الله، وإنى لأتساءل: وماذا فى أن نخاف منه؟ إن عدم الخوف هو المصيبة الكبرى. يا عم برتراند، فليكن الخوف من الله شبيها بالخوف من القانون، فهل تريد أن تمحو الخوف من القانون؟ تعست البشرية إذن وهلكت! ولا يقول بهذا عاقل. على أن الخوف من الله إذا لم يحكمه الاتزان والحكمة تحول إلى شىء ضار أشد الضرر، فالذين لا يعرفون عنه سبحانه وتعالى إلا أن لديه أنكالا وجحيما، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما، تتتحول حياتهم إلى جحيم من قبل الأوان بأوان. بل إنهم لييأسون ويقنطون وينتهى بهم أمرهم إلى الوبار والدمار. ومن هنا وجدنا القرآن يقول: "وخُِلق الإنسان ضعيفا"، "فتلقَّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. إنه هو التواب الرحيم"، "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يُجْزَى إلا مثلها، وهم لا يُظْلَمون"، "قل: يا عبادىَ الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا. إنه هو الغفور الرحيم"، "ورحمتى وَسِعَتْ كل شىء"، "يغفر لمن يشاء بغير حساب". ونجد الرسول الكريم أيضا يقول: "إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: "إن رحمتي سبقت غضبي"، فهو مكتوب عنده فوق العرش"، "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم". ترى كيف يشل الخوف عقل شخص وهو يسمع أن رسوله يجعل التبسم فى وجوه الآخرين صدقة، وأن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأن الكلمة الطيبة صدقة، وهو ما يعنى أن باب الثواب مفتوح على مصراعيه فى كل وقت، وأن النجاة فى يد كل إنسان وبأبسط الوسائل فى حالات كثيرة؟ صحيح أن من الوعاظ من يرعب الناس من الله فلا يعرفون عن ربهم سبحانه إلا كل ما هو مُوئِس، إلا أن العيب إنما هو عيب هؤلاء الوعاظ الحمقى بل المرضى الذين بدلا من تحبيب الناس فى الدين والدنيا ينفرونهم من الاثنين معا. وإنى لأذكر هنا أن أقصى ما كنت أقوله لابنى الصغير إذا أخطأ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير