تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قائم. اختلف إعرابه واتفق معناه. ومثله: رأيته منذ يومين، ومنذ يومان. ولا مالَ عندك، ولا مالٌ عندك. وما فى الدار أحدا إلا زيدٌ، وما فى الدار أحدٌ إلا زيدا. ومثله: إن القوم كلَّهم ذاهبون، وإن القوم كلُّهم ذاهبون. ومثله: "إن الأمر كلَّه لله"، و"إن الأمر كلُّه لله". قرئ بالوجهين جميعا. ومثله: ليس زيد بجبانٍ ولا بخيلٍ، ولا بخيلاً. ومثل هذا كثير جدا مما اتفق إعرابه واختلف معناه، ومما اختلف إعرابه واتفق معناه. قال: فلو كان الإعراب إنما دخل الكلامَ للفرق بين المعانى لوجب أن يكون لكل معنى إعراب يدل عليه لا يزول إلا بزواله. قال قطرب: وإنما أعربت العرب كلامها لأن الاسم فى حال الوقف يلزمه السكون للوقف، فلو جعلوا وصله بالسكون أيضا لكان يلزمه الإسكان فى الوقف والوصل، وكانوا يبطئون عند الإدراج. فلما وصلوا وأمكنهم التحريك جعلوا التحريك معاقبا للإسكان ليعتدل الكلام. ألا تراهم بَنَوْا كلامهم على متحرك وساكن، ومتحرك وساكنين، ولم يجمعوا بين ساكنين فى حشو الكلمة ولا فى حشو بيت، ولا بين أربعة أحرف متحركة لأنهم فى اجتماع الساكنين يبطئون وتذهب المهلة فى كلامهم، فجعلوا الحركة عقب السكون. قيل له: فهلاّ لزموا حركة واحدة لأنها مجزئة لهم إذ كان الغرض إنما هو حركة تعتقب سكونا؟ فقال: لو فعلوا ذلك لضيّقوا على أنفسهم فأرادوا الاتساع فى الحركات وألا يحظروا على المتكلم الكلام إلا بحركة واحدة. هذا مذهب قطرب واحتجاجه. وقال المخالفون له ردا عليه: لو كان كما زعم لجاز خَفْض الفاعل مرة، ورَفْعُه أخرى ونَصْبُه، وجاز نَصْبُ المضاف إليه، لأن القصد فى هذا إنما هو الحركة تعاقب سكونا يعتدل به الكلام. وأى حركة أتى المتكلمُ أجزأته، فهو مخير فى ذلك. وفى هذا فساد للكلام وخروج عن أوضاع العرب وحكمة نظام كلامهم. واحتجوا لما ذكره قطرب من اتفاق الإعراب بأن قالوا إنما كان أصل دخول الإعراب واتفاق المعانى فى الأسماء التى تُذْكَر بعد الأفعال لأنه يُذْكَر بعدها اسمان: أحدهما فاعل، والآخر مفعول، فمعناهما مختلف، فوجب الفرق بينهما، ثم جُعِل سائر الكلام على ذلك. وأما الحروف التى ذكرها فمحمولة على الأفعال. ولكل شىء مما ذكر علة تمر بك إن شاء الله تعالى".

وواقع الأمر أن هناك فارقا ضخما بين ما قاله د. أنيس وما يقول به قطرب: فأنيس يزعم أن الإعراب لم يكن موجودا فى لغة العرب، ثم أوجده علماء النحو بعد الإسلام: فى نهاية القرن الأول الهجرى أو بداية القرن الثانى. أما قطرب فلم ينسب الإعراب إلى النحاة، بل إلى العرب. أى أن ذلك أمر أصيل عندهم، وليس شيئا طارئا كما يزعم أنيس. ومقصوده أن ظهور الإعراب أمر يقوم على التطور الطبيعى لا على القصد والتخطيط، واشترك فيه العرب جميعا كما يقع فى أية ظاهرة لغوية لا أنه انفرد به علماء النحو وحدهم واخترعوه اختراعا. وفضلا عن ذلك لم يشر قطرب من قريب أو من بعيد فى كثير أو قليل إلى أن النحاة عندنا تأثروا على نحو أو على آخر بالنحو اليونانى أو غير اليونانى.

ومن الواضح أن فيما قاله قطرب نسفًا لما زعمه د. أنيس، الذى عزا اختلاق الإعراب إلى النحاة، على حين أن قطربا، الذى كان قريب عهد بأولئك النحاة المظلومين، إذ كان من أهل القرن الثانى الهجرى، قد أرجعه كما رأينا إلى السليقة العربية. ولو كان الأمر على ما زعم أنيس لقد كان قطرب، ورأيه فى الإعراب هو ما نعرف، أول من يذكر هذا ويحتج به ويتخذه دليلا لا يُصَدّ ولا يُرَدّ على صحة ما قاله فى موضوع الإعراب. وأيا ما يكن الحال فقد انفرد قطرب بهذا الرأى ولم يقل به من النحاة أحد سواه طبقا لما ذكره الزجاجى فى النص الذى أوردنه آنفا.

أما قول قطرب إن هناك أسماء تشترك فى الإعراب وتختلف فى المعانى، مثل الأسماء التى تعقب "إن" و"لكن" و"لعل" و"ليت"، وأسماء تتفق فى المعنى وتختلف فى الإعراب، مثل خبر "ما" النافية، الذى قد يجىء مرفوعا، وقد يجىء منصوبا، فالرد عليه هو أن المعنى الذى يقصده النحاة ليس هو التوكيد الذى فى "إن"، والرجاء الذى فى "لعل"، والتشبيه الذى فى "كأن" ... إلخ، بل تحول الاسم من مبتدإ إلى اسم لهذه الحروف، أو أن يكون الاسم فاعلا، بمعنى أنه هو الذى يأتى بعد الفعل ويحقق الفعل أو يتحقَّق الفعل من خلاله، أو أن يكون مفعولا، بمعنى أنه هو الذى وقع عليه الفعل ... إلخ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير