تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما ما يقوله قطرب فيحتاج إلى عدد غير متوفر من الحركات، إذ أنى لنا بالحركات الكافية إذا ما خصصنا كل كلمة بإعراب يقتصر عليها فلا تشاركها فيه كلمة أخرى؟ وبالنسبة إلى ارتفاع الاسم الواقع بعد "ما" النافية وانتصابه فأمره غير ما فهمه قطرب، إذ الارتفاع من عمل قوم، والانتصاب من عمل قوم آخرين، والأولون هم التميميون، والآخرون هم الحجازيون. وبالمثل ليس فى ارتفاع المستثنى وانتصابه عند مجىء المستثنى منه منفيا حجة لقطرب، إذ إن سبب ارتفاعه هو أنه بدل من المستتثنى منه، وانتصابه سببه إخراجه من المستثنى منه. وهكذا ترى أن الاسم قد ارتفع لوجه، وانتصب لوجه آخر مختلف ...

أما لو كانت غاية الإعراب مجرد الاتساع فى الحركة لرأينا الفاعل يرفع مرة، وينصب أخرى، ويجر ثالثة ... وهكذا، إذ ما دامت الغاية هى الاتساع فلم اهتموا بالانضباط فى استعمال الحركات على النحو الذى نراه فى الإعراب؟ إن كلام قطرب معناه أن ما يقع الآن من جماهير المتعلمين ومن كثير من الكتاب من رفع المبتدإ والفاعل ونائب الفاعل مرة، ونصبها مرة، وجرها مرة كيفما اتفق، هو أمر لا غبار عليه، إذ به يتحقق الاتساع الذى أراده العرب من الإعراب، والسلام. ولقد وجدت إبراهيم مصطفى يقول هنا بما توصلت أنا أيضا إليه، إذ وصف قول قطرب الذى نقله عنه إبراهيم أنيس بأنه "رأىٌ يشرح ما بين الحركة والسكون، ولكنه يفضى إلى إبطال الإعراب وإلى التوسيع على القائل أن يحرك آخر الكلمة على ما يشاء فى كل موضع، وذلك ما لم يقبله أحد من النحاة. وما أظن قطربا كان وفيا لرأيه هذا إلى آخر ما يقتضيه" (إبراهيم مصطفى/ إحياء النحو/ ط2/ القاهرة/ 1413هـ- 1992م/ 51 - 52).

ولنفترض أن ما قاله قطرب فى الأمثلة التى أوردها صحيح، فما نسبة ما ذكره إلى حجم علم النحو؟ إنه لقطرة من سيل، وإلا فكيف نفرق بين "إن" الشرطية و"إن" النافية؟ أو كيف نفرق بين "لام الأمر" و"لام التعليل"؟ أو كيف نفرق بين "واو رب" و"واو الاستئناف"؟ أو كيف نفرق بين هذه و"واو العطف"؟ أو "كيف نفرق بين هذه الواو و"وواو المعية"؟ أو كيف نفرق بين "فاء العطف" و"فاء السببية"؟ وهذا كله، ولم نتجاوز الحروف إلى الأسماء والأفعال، بل لم نستقص كل الحروف، بل اجتزأنا ببعضها ليس إلا. ولنفترض ثانية أن ما قاله قطرب صحيح، أفلا يستحق الحرص على جمال النظام والتناسق والاطراد أن تكون هناك قواعد تحكم الإعراب بحيث يتوفر لكلامنا العنصر الجمالى بدلا من أن نكتفى بتأدية المعنى تأدية إجمالية أو تأدية مقاربة؟ إن بعض الناس يكتفون بتناول الطعام على قارعة الطريق مفترشين الأرض واضعين طعامهم أمامهم عليها. وهم بذلك يكونون قد أكلوا، ولم ينقصهم من ناحية الأكل شىء. بل إن الإنسان لن ينقصه أيضا من هذه الناحية شىء لو دُلِق الطعام أمامه على الأرض فانكبّ عليه يلعقه بلسانه كما يصنع الحيوان ذوو الأربع. إلا أن الشخص المتحضر لا يكتفى بهذا، بل يخلق لنفسه خَلْقًا طائفة من الشعائر لدن تناول الطعام من موسيقى وزهور وشموع وشوكة وسكين وأطباق ثمينة وخادم يلبس تاجا قماشيا أبيض فوق رأسه ويتمنطق بحزام أحمر. ثم إنه يتناول ألوان الطعام لونا بعد لون حسب ترتيب معين لا دفعة واحدة ... وهكذا. فإذا صح كلام قطرب فليكن الإعراب، فى جانب منه، مثل هذا.

والطريف أن قطربا، رغم كل هذا، كان يقول بما يقول به النحاة الآخرون من الإعراب، فكأنه لم يُؤْثَر عنه شىء مما نقلناه عن الزجاجى منسوبا إليه. وهذه أمثلة على ما نقول: ففى إعراب قوله تعالى: "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله" فى الآية 83 من سورة "البقرة" نقرأ فى تفسير "مفاتيح الغيب" ما يلى: "اختلفوا في موضع "يعبدون" من الإعراب على خمسة أقوال: القول الأول: قال الكسائي: رَفْعُه على "أن لا يعبدوا"، كأنه قيل: "أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا". إلا أنه لما أسقطت "أن" رفع الفعل كما قال طرفة:

ألا أيهذا اللائمي أَحْضُر الوغى * وأن أشهد اللذات، هل أنت مُخْلِدي؟

أراد: "أن أحضر"، ولذلك عطف عليه "أن". وأجاز هذا الوجه الأخفش والفَرّاء والزَّجّاج وقُطْرُب وعلي بن عيسى وأبو مسلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير