تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أم هل كانت اللغة العربية المسكَّنة الأواخر تشكل عبئا باهظا على عرب الجاهلية وعصر المبعث والخلافة الراشدة وبنى أمية فعمل العلماء فى أواخر القرن الأول أو أوائل القرن الثانى، طبقا لما تهرف به نظرية د. أنيس، على تذليل هذا العبء بإدخال الإعراب؟ لكنْ ها هى ذى نصوص الشعر والخطابة والأمثال وغيرها فى الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموى تحت أيدينا بمقادير كبيرة، فليفلِّها د. أنيس وأشياعه وليأخذوا راحتهم فى التفلية، وأتحداهم أن يجدوا نصا واحدا يشير إلى أن اللغة المسكَّنة الأواخر، إن كانت هناك فى ذلك الحين تلك اللغة المتوهمة التى ليس لها وجود إلا فى خيالات إبراهيم أنيس، كانت تشكل أى عبء على العرب. وحتى لو افترضنا أن ذلك قد حدث، وهو مستحيل، فهل الخروج من تلك الصعوبة يكون باللجوء إلى الإعراب، شأن المستجير من الرمضاء بالنار؟ ألا يرى القارئ مدى سخف هذه النظرية وتنطعها كيفما نظرنا إليها، ومن أية زاوية أقبلنا عليها؟

يقول إبراهيم أنيس: "نحن نرجح أن تحريك أواخر كل الكلمات لم يكن فى أصل نشأته إلا صورة للتخلص من التقاء الساكنين، غير أن النحاة حين أعيتهم قواعده وشق عليهم استنباطها فصلوا بين عناصر الظاهرة الواحدة. ولعلهم تأثروا فى نهجهم هذا بما رأوه حولهم من لغات أخرى كاليونانية مثلا، ففيها يُفَرَّق بين حالات الأسماء التى تسمى: " cases"، ويُرْمَز لها فى نهاية الأسماء برموز معينة. وكأنما عز على نحاة العربية ألا يكون فى العربية مثل هذه الـ" cases". فحين وافقت الحركة ما استنبطوه من أصول إعرابية قالوا عنها إنها حركة إعراب، وفى غير ذلك سموها: حركة أُتِىَ بها للتخلص من التقاء الساكنين" (من أسرار اللغة/ 235). فهل كان علماؤنا يعرفون اليونانية ونحوها، فقارنوا بينها وبين لغتهم ووجدوا أن اليوناينة تفضلها، فشعروا بالحسد وأرادوا أن يكون للغتهم نفس النحو الذى لها واخترعوا لها هذا النظام النحوى بعد أن لم يكن لها شىء منه؟ ولكن متى تم ذلك يا ترى؟ وفى أية ظروف؟ لكننا ننظر فلا نجد أى خبر عنه فى أى كتاب أو رسالة من تراثنا؟ فلماذا؟ هل أحس هؤلاء العلماء وبقية الأمة أنهم يجترحون فاحشة عظيمة فلم يريدوا أن يأتوا لها على ذكر وآثروا الصمت على أن يعرف العالم عنهم ذلك؟

الواقع أنه من المتصور أن تخر السماء على الأرض، لكن ليس من المتصور أن يكون شىء من هذا قد وقع، وإلا كان علينا، لكى نصدق بوقوع شىء منه، أن نلغى عقولنا تمام الإلغاء. إن أمرا كهذا لا بد أن يكون قد استغرق سنين وسنين، ولا بد أن يرجّ الأمة كلها من أقصاها إلى أقصاها وأن ينقسم الناس بشأنه فرقا وأحزابا وأن تقوم بينهم منازعات وخصومات وأن يكتبوا الكتب دفاعا وهجوما وأن يتبادلوا الاتهامات ... إلى آخر ما يقع فى مثل تلك الأحوال. بيد أن د. أنيس يتصور أنه يتحدث عن شرب كوب من الشاى ساعة قيلولة يخلد بعدها الشخص إلى السرير، ليقوم فيفرك عينيه ويتمطى، وقد نسى كل شىء. كذلك يرى د. على عبد الواحد وافى أن "خلق قواعد اللغة خلقا محاولة لا يتصورها العقل، ولم يحدث له نظير فى التاريخ، ولا يمكن أن يفكر فيها عاقل أو يتصور نجاحها. فمن الواضح أن قواعد اللغة ليست من الأمور التى تخترع أو تفرض على الناس، بل تنشأ من تلقاء نفسها وتتكون بالتدريج" (د. على عبد الواحد وافى/ فقه اللغة/ لجنة البيان العربى/ 1388هـ- 1968م/ 207)

ولنفترض أننا تغاضينا عن ذلك كله، هل نسينا أنه كان عندنا فى ذلك الوقت مدرستان لغويتان متناحرتان هما مدرستا الكوفة والبصرة، ويوشك ألا تقدم أى من المدرستين على أمر من الأمور أو تتوصل إلى رأى من الآراء إلا وتقوم الأخرى فتعارضها وتخطّئها؟ فكيف تواطأت تانِكم العدوتان اللدودتان على الصمت فى مثل تلك القضية الخطيرة فلم يفتح أى من علمائهما فمه بنبسة؟ وكيف صمت العلماء والمفكرون من متكلمين ومفسرين وحُفّاظ ورجال حديث ومؤرخين وأدباء وشعراء وخطباء وقضاة وكتّاب دواوين، فضلا عن الخلفاء والولاة والقواد والمعلمين فلم يقولوا شيئا؟ لقد أقدمت تركيا فى بداية الربع الأول من القرن العشرين على مجرد التغيير فى حروف هجائها من الحروف العربية إلى اللاتينية، فارتجت أركان العالم الإسلامى من أقصاه إلى أقصاه. وكيف سكت الناس عن المعاناة التى كان عليهم أن يتجشموها فى تعلم اللغة على

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير