ذهبت الجنازة إلى البسطاء أملاً في أن يخرجوا إليها فرحة أن مِنْ قريتهم رجلاً مشهورًا، ولكن هل يمكن أن يحزن الناس على رجل نال شهرته من البول في ماء زمزم كحال الأعرابي الأحمق؟!
قاطع الناس جنازته، مع أن هؤلاء الناس قد يخرج بعضهم في جنازة عصاة من مغنيين وممثلين، مما يدل على أن الزنادقة أحقر عند الله وعند الناس من الفساق.
وكنا نود أن نكتفي بهذه العظة التي تتحدث عن نفسها دون أن نعيد النكت في كنيف أفكار الرجل؛ إلا أن بعض "سدنة البيت العالماني" أفزعهم هذا المصير المذل لصاحب لهم، فدبَّجوا المقالات في مدحه والثناء عليه، ونعي الرجل الذي أراد أن يحررنا من سلطان النص؛ فحاربه الإرهابيون واختطفه الموت، وكأنهم يريدون أن يردوا إليه بعض الاعتبار!
ونحن نقول لهم:
إذا استطعتم أن تنبشوا عليه قبره، فتخرجوه منه، وتصنعوا له جنازة عسكرية، وتدعوا إليها أهل الأرض جميعًا؛ فهل ترون ذلك ينفعه؟!
ألن تردوه إلى القبر ثانية؟!
ألن تتركوه وحيدًا ليس معه إلا ما قدَّم؟!
بل إن استطعتم أن تقيموا له حفلات تأبين، وأن تعيدوا نشر أعماله، وأن تحركوا الجهات الغربية المشبوهة التي منحته جوائزها في حياته أن يمنحوه كل جوائز الدنيا -"نوبل" فما دونها-؛ فلن يزيده ذلك إلا مضاعفة لسيئاته؛ فإن (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) (رواه مسلم).
عفوًا معشر العالمانيين ..
انقطع عمل الرجل، وانقطعت علائقه بالدنيا، فلم يعد يصله منها إلا ثواب دعوة إلى الخير تجري، أو وزر دعوة شر تجري.
لو كانوا يحبون صاحبهم؛ لكفوا عن نشر سيئاته، وأمسكوا عنه حتى لا يُضاعفوا عليه العذاب، ولكنهم لا يهمهم صاحبهم بقدر ما تهمهم أنفسهم؛ فإنه ما من شيء يثير الرعب في نفس العالماني والمادي مثل: الموت، ولِمَ لا يخاف من الموت وهو لا يدري ماذا سيكون بعده؟! إذ أن عقله المريض قد منعه من الاستفادة بنور النص، فبقي حائرًا تائهًا "ليس يدري" كما قالها كبير لهم في قصيدة "لست أدري"، كلمات يمكن أن تصور لنا حيرته واضطرابه وعدم درايته بشيء!
ولكن المؤمنين المسلِّمين لنصوص الكتاب والسنة يدرون -بفضل الله- أن أرواحهم بيد الله؛ إن شاء قبضها، وإن شاء بسطها، بل يدركون أنهم يعاينون الوفاة الصغرى في كل يوم؛ (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر:42).
ومن ثمَّ يقولون عند النوم -كما سنَّ لهم نبيهم-: (بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) (متفق عليه).
ويقولون عند الاستيقاظ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (متفق عليه).
والمؤمن يعرف أن لحظة النهاية لا بد وأن تأتى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران:185).
أهل المؤمنين لا يستعملون عبارات من جنس: "اختطفه الموت" ونحوها مما يقولها من لا يعرفون أن الأرواح يقبضها "مللك الموت" بأمر مالك الملك، ورب الأملاك -عز وجل-.
المؤمن يعرف أنِ القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
المؤمن يعرف أن السبيل بعد إما إلى جنة وإما إلى نار: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) (الشعراء:90 - 91).
هذه حقائق يعرفها عوام المسلمين منذ نعومة أظفارهم -بفضل الله تعالى-؛ فمنهم من يعمل لها فيُرجى له النجاة التامة، وتراه لا يخاف الموت إذا أتاه على فراش المرض، وجدته يواسي أهله بدلاً من أن يواسوه، ويعظهم بدلاً من أن يعظوه، ويوصيهم بآخرتهم وينهاهم عن أن يبكوا على دنياه!
¥