قال: (وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير مستحيل أن يقال: لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الإسلام قوماً، فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتدّ عن دينه دين الحقّ إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه، وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين، ومن أشبههم؛ كان بيّناً بذلك أن معنى قوله: ? لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ ? إنما هو: لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية، ورضاه بحكم الإسلام. ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم بالإذن بالمحاربة.)
ثم ختم ببيان الموقف من الآثار التي دلّت على نزول الآية في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام، فقال: (ذلك غير مدفوعة صحته، ولكن الآية قد تنزل في خاصّ من الأمر، ثم يكون حكمها عاماً في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه. فالذين أنزلت فيهم هذه الآية على ما ذكر ابن عباس وغيره، إنما كانوا قوماً دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم، فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام، وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعمّ حكمها كل من كان في مثل معناهم ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها، وإقرارهم عليها على النحو الذي قلنا في ذلك.) ([2])
وذكر ابن عطية هذه الأقوال الثلاثة، مع تعليق يسير عليها، ولم يذكر ترجيحاً أو اختياراً. ([3])
وأما الرازي فذكر في معنى: ? لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ ? ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار.
القول الثاني: أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر: إن آمنت وإلا قتلتك، فقال تعالى: ? لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ ?.
القول الثالث: لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً؛ لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره، ومعناه: لا تنسبوهم إلى الإكراه. ونظيره قوله تعالى: ? وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ? (النساء: من الآية94)
ولم يذكر ترجيحاً أو اختياراً كذلك. ([4])
وتوسع القرطبي في ذكر الأقوال في معنى الآية، فجعلها ستة أقوال، وهي الأقوال التي ذكرها ابن جرير، وقد جعلها أربعة أقوال، وزاد عليها القول الثالث الذي ذكره الرازي، وأما القول السادس فهو: أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام إذا كانوا كباراً.
ولم يذكر ترجيحاً أو اختياراً كذلك ([5])، غير أنه نقل قول النحاس: (قول ابن عباس في هذه الآية أُولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأي) ([6])، وقول ابن عباس هذا هو ما رواه أبو داود عنه قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مِقلاتاً ([7])، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا?، فأنزل الله تعالى: ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ?. ([8])
وذكر أبو حيان هذه الأقوال، ولم يرجح شيئاً منها. ([9])
وبدأ ابن كثير تفسيره للآية بقوله: (? لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ ? أي: لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام؛ فإنه بيّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته دخل فيه علي بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً.) ثم ذكر الأقوال الثلاثة التي ذكرها ابن جرير، ولم يذكر ما يدل على موقفه منها صراحة. ([10])
وخالف ابنُ عاشور من قبله من المفسرين، وقرر أن هذه الآية ناسخة للأمر بقتال المشركين، وإجبارهم على الدخول في الإسلام. فهي على هذا ناسخة لا منسوخة.
¥