ومن خلال هذه الدراسة المنهجية والتحليل العلمي للقضايا المشكلة، تبدو لنا الدقة المنهجية في البحث، والخبرة بتحليل النصوص وسبر أغوارها، مما يفصح عما كان يتمتع به الراغب الأصفهاني من عقلية علمية ومنهجية نحن أحوج ما نكون إليها اليوم.
خامسا: مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند الزركشي (ت 794هـ):
ينص الزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن " على أن النهي عن التأويل، إنما اقتصر على المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وهذا هو السبب الداخلي أي النص الوحيد الذي يعتبره من موانع التأويل، أو من موجبات رده وعدم قبوله بل الأخذ به. وفي ذلك يقول:" النهي إنما انصرف إلى المتشابه منه لا إلى جميعه، كما قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه}. لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق، فلو لم يجز التفسير لم تكن الحجة بالغة، فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب، وشأن النزول أن يفسره، وأما من كان من المكلفين ولم يعرف وجوه اللغة فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع، فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير، فلا بأس به، ولو أنه يعلم التفسير فأراد أن يستخرج من الآية حكمة أو دليلا لحكم فلا بأس به، ولو قال المراد من الآية كذا من غير أن يسمع شيئا فلا يحل، وهو الذي نهى عنه".
ويفهم من النص أن من التأويل ـ وهو الذي يصطلح عليه بالتأويل المردود ـ ما يكون محظورا على أهل الاختصاص ـ أو ما يعرف عند السلف الصالح بأهل الجهة ـ الخوض فيه. ومنه ما يجوز لهم الخوض فيه، ولكنه محظور على العوام ويدخل ضمنهم كل من لم يستكمل شروط المقسر العلمية والدينية.
أما الأسباب المنهجية الخارجية الموجهة لرد التأويل، وعدم الاخذ به فيحصرها الزركشي في سببين:
1 - معارضة القرآن بالرأي والمذهب والهوى. وفيه يقول: فأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور لأنه تأويل الجاهلين، مثل تأويل الروافض لقوله تعالى: {مرج البحرين يلتقيان} أنهما علي وفاطمة. (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) يعني الحسن والحسين - رضي الله عنهما - وكذلك قالوا في قوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل} إنه معاوية وغير ذلك".
2 - الجهل بعلوم اللغة وبعلم أصول الفقه، وفي هذا السبب المنهجي يقول الزركشي: " وإذا تقرر ذلك فينزل قوله تعالى: (من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) على قسمين من هذه الأربعة:
أ- أحدهما: تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب.
ب- الثاني: حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه، لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم: علم العربية واللغة والتبحر فيهما، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء، وصيغ الأمر والنهي، والخبر والمجمل والمبين، والعموم والخصوص، والظاهر والمضمر، والمحكم والمتشابه والمؤول، والحقيقة والمجاز، والصريح والكتابة، والمطلق والمقيد".
سادسا: مرتكزات التفريق بين نوعي التأويل عند ابن تيمية:
يرى الإمام ابن تيمية أن الأسباب الرئيسية في رد التأويل، وعدم الأخذ به تكمن في الأدوات المنهجية الموظفة في تفسير القرآن الكريم، والتي تفتقر إلى النزاهة والموضوعية العلمية، ويمكننا أن نجمل الأسباب في نقطتين:
1 - عدم التقيد بمصادر التفسير المتفق عليها عند أهل السنة، بحيث لا يقال في التفسير بالاجتهاد والرأي، إلا بعد أن يطلب تفسيرها في القرآن ثم في السنة، ثم في أقوال الصحابة، ثم في أقوال التابعين. فإذا استنفدنا البحث واستفرغنا الجهد في هذه المصادر كلها ولم نجد تفسيرا للآية أو السورة التي نروم تفسيرها، عندها فقط يجوز الإجتهاد في تفسيرها لمن توفرت فيه شروط الأهلية، واكتملت لديه وسائل الاجتهاد وأدواته، وهي ما يصطلح عليه السلف الصالح بعلوم الآلة، وهي علوم ضرورية لكل من يريد أن يفسر الذكر الحكيم.
¥