تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن الشواهد أيضاً قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [266 البقرة]، فقوله جل ذكره: (وأصابه الكبر) حال، وكذلك (وله ذرية ضعفاء) فهو حال من الهاء في (أصابه) ()، وهي حال متداخلة، إحداهما جاءت فعلية فعلها ماض، والثانية جاءت اسمية على تقديم الخبر شبه الجملة، فما سر مجيء كل منها على ما جاءت عليه؟.

لو قيل: له فيها من كل الثمرات وهو كبير محتاج لاحتمله الأسلوب، لكننا نجد أن جملة: (وأصابه الكبر) أدل على المطلوب وأعظم تصويراً لما سيقت له، وذلك لما في هذا الفعل (وأصابه) من الدلالة التي أشار إليها السمين بقوله: ((وأتى به في هذه الآيات كلها، نحو: فأصابه وابل، وأصابه الكبر، فأصابها إعصار؛ لأنه أبلغ وأدل على التأثير بوقوع الفعل على ذلك الشيء، من أنه لم يُذكر بلفظ الإصابة، حتى لو قيل: وَبَل، وكَبِر، وأعصرت لم يكن فيه ما في لفظ الإصابة من المبالغة)) ()، وهذا يعني أن (وهو كبير) لا تعطي من مدلول سطو الكبر فيه، وتأثيره عليه ما تعطيه (وأصابه)، ثم التعبير بالماضي يدل على وقوع ذلك وتحققه، وأن حالته هذه سابقة وما زالت، وهذا يشعر بشدة الحاجة التي هو فيها، ولو قيل بالاسمية: (وهو كبير) لما أشعر بذلك ألبتة؛ لأنه لا دلالة فيها على المضي.

أما جملة (وله ذرية ضعفاء) فكان يمكن أن يكون مكانها (وأبناؤه صغار محتاجون) لكن ما ذُكر، فيه تقديم للخبر (له) المشعر باختصاص ذلك به، ومجيء المبتدأ بهذا اللفظ: (ذرية) وهي كلمة تشعر بالضعف بخلاف (أبناء)، وقد جاءت في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [37 إبراهيم] وهو مشابه لهذا الموضوع في المسكنة والحاجة، وكذلك وصفها (بضعفاء)، ففيه إظهار لمدى مسكنة هذه الذرية، يقول الطاهر بن عاشور: ((وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنته، بأنه ذو عيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء - أي صغار - ... ، وقد أصابه الكبر فلا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة ... ، فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقب لثمرة هذه الجنة)) ().

ويتضح لنا من هذا أن بيان اختصاص الاسمية بموقعها والفعلية بمكانها أمر لا يتوقف على دلالة الثبوت والاستمرار أو الحدوث والتجدد فقط، بل هناك نظم الجملة له دلالته، ونوع الفعل له دلالته، واختيار اللفظ المعبّر له دلالته، وإن كانت دلالة النشوء في الفعل ظاهرة؛ لأنه يدل على الحركة، وهي تقتضي التجدد، فهو -كذلك-أقدر من الاسم على التصوير الحركي، وربما تظهر تلك الدلالة بصورة أوضح في الشواهد التي يلتقي فيها الحالان في الإثبات أو النفي، ويمكن لأحدهما أن يحل مكان الآخر دون قلق في التركيب، وإن كان هناك تفاوت في المعنى، ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [40 آل عمران]، فقوله تعالى: (وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) جملتان حاليتان، جيء بهما لتعليل الاستعلام الحاصل من زكريا عليه السلام ((على سبيل الاستعظام لقدرة الله)) () ((لتعذر عمل المكانين الذين هما سبب التناسل وهما: الكبر، والعقْرة)) ()، يقول أبوحيان معللاً اختلاف الجملتين: ((وكانت الجملة الأولى فعلية؛ لأن الكبر يتجدد شيئاً فشيئاً، فلم يكن وصفاً لازماً، وكانت الثانية اسمية والخبر (عاقر)؛ لأن كونها عاقراً أمر لازم لها لم يكن وصفاً طارئاً عليها، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية)) ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير