تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولعلنا نلحظ أن في قوله: (وقد بلغني الكبر) إشارةً إلى أن هذا الكبر الذي لحقه هو المعهود عادة في منع الإنجاب، وهو ما توحي به (أل) في (الكبر)، ولو قيل: (وأنا كبير) لكان فيه إخبار بكبره فحسب، وليس فيه إشارة إلى بلوغ الكبر المانع؛ لأنه ليس كل كبر يمنع من الإنجاب، ثم إن في الجملة الاسمية: (وأنا كبير) لو قدرناها ما يدل على أن هذا الكبر وصف لازم، وهذا ليس بحق، بل الكبر وصف عارض طارئ بعد أن لم يكن، وأما جملة: (وامرأتي عاقر) فجاءت اسمية ولم تكن (وقد عقرت)؛ لأن ذلك يوحي بتجدد العقم بعد أن لم يكن، وهذا مخالف للواقع ولطبيعة العقم؛ إذ هو حالة قديمة مستديمة فيها كما أشار إليه أبو حيان من قبل.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [61 المائدة]، فقوله جل ذكره: (وقد دخلوا) في موضع الحال من فاعل (قالوا) أو (آمنا)، (وهم قد خرجوا به) حال أخرى ()، أما عن سر المخالفة بين الحالين فيقول ابن عطية: ((وقوله (وهم): تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا، ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع: وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به، فأزال الاحتمال قوله تعالى: (وهم قد خرجوا به) أي: هم بأعينهم)) ()، وبقيت الحال الأولى على فعليتها من غير ذكر ضميرهم؛ لأن الحديث عن اليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم والمنافقين الذين لا ينتفعون بإرشاد ()، فهم معلومون ولا يلتبس معهم غيرهم فلا حاجة لذكر ضميرهم ليميزهم ويخصصهم.

ويلمح أبوحيان سراً آخر وراء هذه المخالفة فيقول: ((وقيل معنى (هم) للتأكيد في إضافة الكفر إليهم، ونفي أن يكون من الرسول ما يوجب كفرهم من سوء معاملته لهم، بل كان يلطف بهم ويعاملهم بأحسن معاملة، فالمعنى: أنهم هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم، لا أنك أنت الذي تسببت لبقائهم في الكفر، والذي نقول: إن الجملة الاسمية الواقعة حالاً المصدرة بضمير ذي الحال المخبر عنها بفعل أو اسم يحتمل ضمير ذي الحال آكد من الجملة الفعلية، من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير: قام زيد زيد ()، ولما كانوا حين جاءوا الرسول أو المؤمنين قالوا: آمنا ملتبسين بالكفر، كان ينبغي لهم ألا يخرجوا بالكفر، ... بل يخرجون بالرسول مؤمنين ظاهراً وباطناً، فأكد وصفهم بالكفر بأن كرر المسند إليه تنبيهاً على تحققهم بالكفر وتماديهم عليه، وأن رؤية الرسول لم تجْدِ عنهم شيئاً ولم يتأثروا بها)) ().

ويقول أيضاً ((وخالف بين جملتي الحال اتساعاً في الكلام)) ()، وهذا القول الأخير وزنه في البلاغة قليل؛ لذلك نحاه أبوحيان جانباً، وأتبعه بالتحليل المطول الجميل السابق الذي أكد فيه أن دلالة الجملة الحالية الاسمية على التأكيد - وهو أحد دلالاتها - نابع من جهة تركيبها ونظمها، وما ذكره ابن عطية أيضاً كان رائعاً؛ لأن الكلام يحتمله،وهكذا تأتي الجملة القرآنية بكل مكوناتها مصورة للمعنى المراد أدق تصوير وأبينه بحيث لا يختلط مع غيره، ولا يختلط معه غيره.

ومن الشواهد أيضاً قوله تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} [49 - 50 إبراهيم]، فجاءت الحال مفردة في (مقرنين)، وجملة اسمية في (سرابيلهم من قطران) وفعلية في (وتغشى وجوههم النار) ()، ولعل السر في مجيء الحال المصورة للباسهم الناري اسمية أن المراد وصف نوع اللباس لا فعل اللبس، وهذا ثابت غير منشأ ولا محدث، ولو قيل: (يلبسون من قطران) لأفهم ذلك أنهم يحدثون فعل اللبس آناً بعد آن، وما تدل عليه الآية هو ديمومة لبسهم ذلك لا تجدده أما غشيان النار لوجوههم فهو حادث متجدد بدليل تغير الجلود وسقوط فروة الوجه عند شرب الحميم - حمانا الله من ذلك - فلما كان غشيان النار لوجوههم متكرراً متجدداً - وهو أنكى في العذاب - جاء التعبير معه بالفعل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير