والواقع أن أهل السنة والجماعة لم تكن لديهم تفرقة حادة بين النقل والعقل، والرواية والدراية، بل كان لديهم منهج قويم يستفيد من الإثنين ويجعلهما متأزرين متعاضدين، فالنقل الصحيح لا يتعارض عندهم أبدا مع العقل الصريح.
القسم الثاني:
أما بالنسبة لنقد السند فقد وضع أهل السنة قواعد لمعرفة الموضوع من الأحاديث جمعها الدكتور مصطفى السباعي في أربع قواعد وهي:
1 - أن يكون راوية كذابا معروفا بالكذب، ولا يرويه ثقة غيره، وقد عنوا بمعرفة الكذابين وتواريخهم وتتبعوا ما كذبوا فيه بحيث لم يفلت منهم أحد.
2 - أن يعترف واضعه بالوضع، كما اعترف أبو عصمة نوح بن ابي مريم بوضعه أحاديث فضائل السور.
3 - أن يروي الراوي عن شيخ لم يثبت لقياه له، أو ولد بعد وفاته، أو لم يدخل المكان الدي ادعى سماعه فيه، كما ادعى مأمون بن أحمد الهروي أنه سمع من هشام بن عمار، فسأله الحافظ ابن حبان: متى دخلت الشام؟ قال: سنة خمسين ومائتين. قال ابن حبان: فإن هشاما الذي تروى عنه مات سنة خمس وأربعين ومائتين ...
4 - وقد يستفاد الوضع مع حال الراوي وبواعثه النفسية، مثل ما أخرجه الحاكم عن سيف بن عمير التميمي أنه قال: كنا عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكتاب يبكي فقال: مالك؟ قال ضربني المعلم. فقال سعد: لأخزينهم اليوم. حدثني عكرمة عن ابن عباس مرفوعا: (معلمو صبيانكم شراركم، أقلهم رحمة لليتيم، وأغلظهم على المسكين) ".
والملاحظ أن العلماء اهتموا بنقد السند أكثر من اهتمامهم بنقد المتن، وذلك لأنه يجوز أن تكون هناك أخبار تتمثل فيها كل مواصفات الحديث الصحيح، ولكنها رغم ذلك قد تكون غير صحيحة النسبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن ثم فنقد السند هو العملية الأولى التي يتعين على دارس الحديث القيام بها وتأتي بعد ذلك عملية نقد المتن التي تزكي وتعضد العملية الأولى.
وأهل السنة وهم يضعون نظريتهم في التفسير -فضلا عما سبق- عنوا بمسألتين هامتين بالنسبة للتفسير، وهما:
* خبر الآحاد.
* الحديث المرسل.
خبر الآحاد:
تعريفه لغة: " الآحاد جمع أحد بمعنى الواحد، وخبر الواحد هو ما يرويه شخص واحد ".
تعريفه اصطلاحا: وأما تعريفه اصطلاحا فقد عرفه الحافظ ابن حجر بأنه الحديث الذي لم يجمع شروط المتواتر. ويوضح ابن حزم ذلك فيشير إلى أنه ما ينقله من الأخبار واحد عن واحد.
حكمه: يرى ابن حزم أن خبر الآحاد إذا اتصل برواية العدول إلى الرسول-صلى الله عليه وسلم- وجب العمل به ووجب العمل بصحته أيضا، وهو رأي الإمام مالك والحسين بن علي الكرابيسي والحارث المحاسبي، وهو قول الإمام أحمد أيضا.
وأما الجمهور فيرون أنه حجة العمل به وإن أفاد الظن: "وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة والخوارج: إن خبر الواحد لا يوجب العلم. ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذبا أو موهوما فيه ... وقال سائر من ذكرنا: إنه يوجب العمل".
وأما ابن تيمية فيرى أن جمهور العلماء على اختلاف مذاهبهم يرون أن خبر الأحاد يوجب العلم إذا تلقته الأمة بالقبول. "ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له أو عملا به أنه يوجب العلم. وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد إلى فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل العلم أنكروا ذلك. ولكن كثير من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك. وهو قول أكثر الأشعرية كأبي إسحاق وابن فورك" ثم يورد ابن تيمية أسماء علماء المذاهب الأربعة الذين قالوا إن خبر الآحاد يوجب العلم: "والأول هو الذي ذكر الشيخ أبو حامد، وأبو الطيب، وأبو إسحاق وأمثاله من أئمة الشافعية،
وهو الذي ذكره القاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية، وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي وأمثاله من الحنفية. وهو الذي ذكره أبو يعلى وابو الخطاب. وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثالهم من الحنبلية ".
كما يذكر أسماء من أنكر ذلك من العلماء. "وأما الباقلاني فهوالذي أنكر ذلك وتبعه مثل أبي المعالي، وأبي حامد، وابن عقيل، وابن الجوزي، وابن الخطيب، والآمدي، ونحو هؤلاء".
¥