وقد بين ابن تيمية أنه لا قيمة لمخالفة هؤلاء لإجماع أهل العلم بالحديث لأن العبرة بأصحاب الإختصاص في الحديث الذين وقفوا حياتهم لخدمة هذا العلم الجليل:"وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر
موجبا للقطع به فالإعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أن الإعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة".
ويرى ابن تيمية أن مما يوقع الغلط في الحديث الذين يقولون فيه أقوالا ويصدرون فيه أحكاما على غير هدى، ولا بصيرة ولا علم، فيصححون الضعيف، وقد يضعفون الصحيح، ويعتمدون ذلك في مقالاتهم ومناظراتهم.
والثاني: أدعياء علم الحديث الذين ينتسبون له وليسوا من أهله، بحيث لم تتكون لديهم خبرة واسعة به، ولم يملكوا بعد ملكة نقدية، ولا حسا حديثيا يمكنهم من دراسة الحديث من حيث السند والمتن، فيكون قولهم فيه وحكمهم عليه قول العالم المدقق الذي يصدر في حكمه عن بينة وعلم "والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم من هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف، فيشكك في صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به، وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به، كلما وجد لفظا في حديث رواه ثقة، أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجله دليلا له في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط".
وكأن ابن تيمية -رحمه الله - يلمح للمفسرين أن لا يسارعوا في الحكم على الحديث، ويبنوا عليه أحكاما، أو يحملوا عليه معنى آية من آي الذكر الحكيم إلى بعد أن يستفتوا أهل العلم بالحديث، ويعملوا بفتواهم، فهذا هو المنهج القويم الذي يتعين على المفسر العمل به وصولا إلى الحقيقة، وعملا بالعلم لا بالظن الباطل أو الزيغ والهوى. وقد بين ابن تيمية أن كثيرا من المفسرين قد جانبوا الحقيقة وبعدوا عن الصواب لما تنكبوا هذا الطريق.
الحديث المرسل:
عرفه ابن الصلاح بأنه: " حديث التابعي الكبير الذي أدرك جماعة من الصحابة وجالسهم، كعبيد الله بن عدي بن الخيار، ثم سعيد بن المسيب وأمثالهما إذا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وقد قيده ابن الصلاح برواية التابعي الكبير. وجمهور الفقهاء والأصوليين يعممون ذلك، فيجعلونه الحديث الذي يرسله التابعون وغيرهم.
وأما حكمه فقد اختلفوا فيه، ويمكننا أن نصنف آرائهم إلى ثلاثة أقسام:
1 - الفريق الأول: قال بحجية الحديث المرسل. وقد قال بذلك الإمام مالك، وأبو حنيفة، وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل. "قال: والإحتجاج به مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما في طائفة والله أعلم.
قلت: وهو محكي عن الإمام أحمد بن حنبل في رواية ".
2 - وأما الفريق الثاني فلا يعتبر الحديث المرسل حجة في الدين، وقد قال بذلك ابن حزم في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام": "المرسل من الحديث هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- ناقل واحد فصاعدا، وهو المنقطع أيضا، وهو غير مقبول ولا تقوم به حجة لأنه عن مجهول، وقد قدمنا أن من جهلنا حاله ففرض علينا التوقف عن قبول خبره، وعن قبول شهادته حتى نعلم بحاله".
وذهب إلى ذلك كل من الإمام مسلم في مقدمة كتابه. ورواه ابن عبد البر في جماعة من أصحاب الحديث، وقال فيه ابن الصلاح: "وما ذكرناه من سقوط الإحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو الذي استقر عليه آراء حفاظ الحديث، ونقاد الأثر وتداولوه في تصانيفهم" (3). ويعلق على ذلك الشيخ أحمد شاكر بقوله: "لأنه حذف منه راو غير معروف، وقد يكون غير ثقة، والعبرة في الرواية بالثقة واليقين، ولا حجة في المجهول ".
3 - الفريق الثالث: يعتبره حجة بشرط، وهو قول الإمام الشافعي، وبعض العلماء. "وهذه الشروط أربعة: ثلاثة في الراوي المرسل، وواحد في الحديث المرسل. وإليك هذه الشروط:
أ- أن يكون المرسل من كبار التابعين.
ب- وإذا سمي من أرسل سمي ثقة.
ج- وإذا شاركه الحفاظ المأمونون لم يخالفوه.
د- وأن ينضم إلى هذه الشروط الثلاثة واحد مما يلي:
1) أن يروي الحديث من وجه آخر.
¥