مواجهة النص المنزل بدون افكار مسبقة، أي بدون أنسقة فكرية أو مذاهب في تفسير الوجود أو المعرفة، تؤدي إلى إخراج النص عن حقيقته، وبعبارة أخرى إعطاء مكان الصدارة والأولوية للنص المنزل ليكشف عن مضمونه من واقع الفهم اللغوي للألفاظ، وبالستعانة بالنصوص المنزلة الأخرى، وبمختلف اصول التفسير. وهذا ما كان من أحمد بن حنبل، فقد أثبت النصوص المنزلة وفسرها على النحو الذي تؤدي إليه الألفاظ معطيا للنص الأولوية في الكشف عن مضمونه.
وهناك نصوص أخرى لابن تيمية توضح أن الخلاف بين أهل السنة والمتكلمين والفلاسفة والصوفية، في ما يخص تفسير الخطاب القرآني، خلاف جوهري. وهذا أحد تلك النصوص التي تؤكد ما قررناه سابقا: "فعلى كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعا لقوله، وعلمه تبعا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شيء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله الله والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة. وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم في الباطن ونفس الأمر على ما تلقوه عن الرسول، بل على ما رأوه أو ذاقوه ثم إن وجدوا السنة توافقه وإلا لهم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضا أو حرفوها تأويلا".
فهذا النص يوضح أن أهل البدع -والمقصود المتكلمون والفلاسفة والصوفية - إذ ينظرون في القرآن الكريم لا يكون قصدهم من ذلك البحث عن الحقيقة بقدر ما هو تعزيز مقرراتهم ومعتقداتهم بدليل نقلي، فإن عجزوا عن ذلك تأولوا النص أو فوضوا علمه لله تعالى.
ولما كان تحريف النص القرآني ناتجا عن سوء الفهم وحسن النية، وسلامة المقصد مرة، وأخرى عن معرفة، وقصد وإصرارا على نصرة الباطل - كما هو الحال عند الجهمية والزنادقة وهم أسلاف المعتزلة وغيرهم م الفرق الكلامية - فإن حكم أهل السنة عليهم تنوع
حسب هذين الأمرين، بحيث يؤثمونهم إذا أخطأوا الفهم ولم يتعمدوا التحريف، بل إنهم يؤتمونهم حتى وإن أصابوا، لأنهم لم يتبعوا في بحثهم طريق الرسول وهديه، مما يجعل طريقهم غير مامون ومحفوفا بالأخطار، فلئن أصابوا هذه المرة فمن المؤكد أنهم سيخطئون في المرات القادمة. وفي ذلك يقول شارح العقيدة الطحاوية: "وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان؟! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، والمنقول إلينا عن الثقات النقلة الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم ..... ، .... يتعلمونه بمعانيه. ومن يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه والسنة فهو مأجور وإن أخطأ، لكن إن أصاب يضاعف أجره ".
وأما إذا حرفوا النصوص عن علم وقصد فإنهم يخرجونهم من الملة: "إن من فسر القرآن أو الحديث وتاوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه. وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطراب من دين الإسلام ".
وهو نفس حكم ابن أبي العز (731هـ/792هـ) وإن كان تعبيره غير قوي ولا شديد اللهجة كما هو الشأن بالنسبة لشيخ الإسلام ابن تيمية (661هـ/728هـ) وهذا نص قوله: "لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليها ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه ".
ويمكننا أن نقسم التفسير على المذهب إلى قسمين رئيسيين هما:
1 - التفسير بالرأي أو المنهج العقلي في التفسير.
2 - التفسير الصوفي والإشاري أو المنهج الكشفي في التفسير.
التفسير بالرأي أو المنهج العقلي في التفسير:
¥