تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وينبغي أن نوضح أن سلف هذه الأمة لم يعارضوا علم الكلام في ذاته، ولا حاربوا الإستدلال العقلي-كما يزعم البعض- إذا كان القصد منه نصرة الدين والدفاع عن حقائقه بإقامة الأدلة العقلية والنقلية على صحتها، بل ذموا ما خاض فيه علماء الكلام والفلاسفة من أمور غيبية صادموا فيها منطوق النصوص الصريحة. وفي ذلك يقول ابن تيمية: "والسلف لم يذموا الكلام، فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الإستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به رسوله، والإستدلال بما بينه الله ورسوله، بل ولا ذموا كلاما هو حق. بل ذموا الكلام الباطل وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضا وهو الباطل.

فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل وهو المخالف للشرع والعقل.

وقد يظن البعض أن هذا القول مجاف للحقيقة، إذ نقل عن جلة من علماء السلف تحريم الخوض في علم الكلام، ومنهم الإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل، والإمام سفيان الثوري، ولكن تحريمهم لذلك لا ينبغي أن يؤخذ على عمومه، بل لا بد من تفصيل وتخصيص. فهم لم يحرموا منه إلا الكلام الباطل وهو المخالف للعقل والنقل، أما ما كان هدفه الذب عن العقيدة ونصرة الدين بالأدلة العقلية وعلى هدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنهم لم يحرموه ولم يعارضوه بل حبذوه، حتى إن الإمام أحمد ليعتبر من منة الله على الامة أن قيض لها علماء يدافعون عن عقيدتها وينصرون دينها بالدليل النقلي والعقلي من غير تحريف للنصوص أو تزييف للحقائق: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الآذى يحيون بكتاب الله الموتى، ويصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم".

وتعلق الدكتورة فوقية حسين على هذا النص بقولها:"فإذا كان قد رفض الكلام فإنه لا يرفض مواقف الدفاع عن العقائد التي حمد الله من أجل أنه سبحانه قد جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يهدون الضال والتائه، وإنه يرفض الكلام ويعني به مواقف المخالفين في العقائد. فابن حنبل يقر موقف الدفاع عن العقيدة كلما اقتضى الامر ذلك، وهو ما فعله إزاء موقف جهم عندما شرع في مواجهة النصوص المنزلة وفي رأسه فكرة مسبقة هي فكرة أن الله (روح-، وهو مالم يذكره الله سبحانه وتعالى عن نفسه فبين له خطأ موقفه، كما لجأ إلى الشرح والتبسيط بأمثلة لتقريب فكره".

وقد ذهب إلى التفصيل في هذا الأمر الإمام الغزالي (ت505هـ) حيث بين في كتابه "إحياء علوم الدين " أن علم الكلام "فيه منفعة وفيه مضرة: فهو في وقت الإنتفاع حلال، أو مندوب، أو واجب كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته وقت الإستضرار ومحله حرام".

وقد بين أهل السنة أن محاربة السلف الصالح لعلم الكلام ليس لأنه أمر حادث في الأمة ولم يكن فيها من قبل، أي أنه بدعة، ولا لأنه يدافع عن الدين والعقيدة عن طريق الإستدلال العقلي، ولكنهم ناصبوه العداء وشنوا عليه حربا شعواء لما فيه من تحريف وكذب، وفي ذلك يقول ابن أبي العز الحنفي (731هـ/792هـ):

"والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحا جديدا على معان صحيحة، كالإصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة، ولا كرهوا أيضا الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك: مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها".

كما أنهم حاربوا علم الكلام لأن ضرره كان أعظم بكثير من نفعه فهو بما أثاره من شبهات قد فتح الباب أمام الزنادقة والملاحدة للطعن في الدين، حيث إنهم كانوا يثيرون الشبهة بأسلوب منطقي وعقلي قوي السبك، متين الإرتباط، ويردون الشبهة ذاتها بأسلوب بارد، خال من أي حجة منطقية أو دليل عقلي يفندها، وقد كان ذلك مدعاة لتقرير الشبهة، وإثارة الشك والريبة في حقائق الدين ويقينياته. وقد نص على ذلك الإمام الغزالي (ت505هـ) في كتابه " الإحياء" فقال:"فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل بالإبتداء، ورجوعها بالدليل المشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر في

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير