منهم قد أعطى يده بأن الفصاحة لا تكون في الكلم أفراداً، وأنها إنما تكون إذا ضمّ بعضها إلى بعض، وكان يكون المراد بضمّ بعضها إلى بعض، تعليقَ معانيها بعضها ببعض، لا كونَ بعضها في النطق على إثر بعض، (18) كان واجباً إذا علم ذلك، أن يعلم أن الفصاحة تجب لها من أجل معانيها، لا من أجل أنفسها؛ لأنه محال أن يكون سببَ ظهور الفصاحة فيها، تعلقُ معانيها بعضها ببعض، ثم تكون الفصاحة وصفاً يجب لها لأنفسها لا لمعانيها، وإذا كان العلم بهذا ضرورة، ثم رأيتهم لا يعلمونه، فليس إلا أن اعتزامهم على التقليد قد حال بينهم وبين الفكرة، وعرض لهم منه شبهُ الأُخذة" (19).
كانت هذه ردود الشيخ عبد القاهر على العبارة الأولى من كلام القاضي عبد الجبار، أما العبارة الثانية: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد. . ."، فردّ عليها بقوله: "فإنْ قيل: فماذا دعا القدماءَ إلى أن قسّموا الفضيلة بين المعنى واللفظ، فقالوا: "معنى لطيف، ولفظ شريف"، وفخموا شأن اللفظ وعظّموه حتى تبعهم في ذلك مَن بعدهم، وحتى قال أهل النظر (20): " إن المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ"، فأطلقوا كما ترى كلاماً يُوهم كل مَن يسمعه أن المزية في حاقّ اللفظ؟
قيل له: لما كانت المعاني إنما تتبين بالألفاظ، وكان لا سبيل للمرتِّب لها والجامع شملها، إلى أن يُعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره، إلا بترتيب الألفاظ في نطقه، تجوَّزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ، ثم بالألفاظ، بحذف (الترتيب)، ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض وكشف عن المراد، كقولهم: "لفظ متمكن"، يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه، و"لفظ قلق نابٍ"، يريدون أنه من أجل أن معناه غيرُ موافق لما يليه، كالحاصل في مكان لا يصلح له، فهو لا يستطيع الطمأنينة فيه، إلى سائر ما يجيء في صفة اللفظ، مما يُعلم أنه مستعار له من معناه، وأنهم نحلوه إياه، بسبب مضمونه ومؤدّاه.
هذا، ومَن تعلق بهذا وشبهه واعترضه الشك فيه، بعد الذي مضى من الحجج، فهو رجل قد أنِسَ بالتقليد، فهو يدعو الشبهة إلى نفسه من ههنا وثَمَّ، ومَن كان هذا سبيله، فليس له دواء سوى السكوتِ عنه، وتركِه وما يختاره لنفسه من سوء النظر، وقلة التدبر" (21).
وقال في موضع آخر: "ومما تجدهم يعتمدونه ويرجعون إليه قولهم: "إن المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ"، وهذا كلامٌ إذا تأمّلتَه لم تجد له معنى يصحُّ عليه، غير أن تجعل "تزايد الألفاظ" عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم؛ لأن التزايد في الألفاظ من حيث هي ألفاظٌ ونطقُ لسان، محال" (22).
*·~-.¸¸,.-~*???*·~-.¸¸,.-~*
هذا هو رأي الشيخ عبد القاهر في كلام القاضي عبد الجبار، فكيف يُقال إنه استند إليه، والاستناد إلى الشيء يتضمّن قبوله، ولا يُعقل أن يرفض الشيخ عبد القاهر كلاماً ويستند إليه ـ أي يقبله ـ في آن واحد؛ لأنه بذلك يكون قد جمع بين طرفي نقيض، وهذا محال.
غير أن عدم قبول الشيخ عبد القاهر لآراء القاضي عبد الجبار لا ينفي فضل الأخير في خدمة قضية النظم، حيث يمكن مناقشة الشيخ فيما ذهب إليه:
يتلخص ما نسبه عبد القاهر إلى عبد الجبار في قضيتين:
الأولى: أن القاضي عبد الجبار زعم أنه يطلب المزية في النظم، ثم لم يتوخاها في معاني النحو، والنظم عبارة عن توخّيها فيما بين الكلم، وأنه اعترف من حيث لا يدري بأن المزية تعود إلى معاني النحو، وذلك بقوله: "إن الفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات. . . ".
الثانية: وقع القاضي عبد الجبار في القضية الأولى؛ لأنه ظنّ أن موضع المزية في (اللفظ)، بناء على أن (النظمَ) نظمُ الألفاظ، فأهمل المعاني التي بين الكلمات، ووقف على الألفاظ، كما أن قوله: " إن المعاني لا تتزايد. . . " يوهم أن المزية في حاقِّ اللفظ.
¥