لقد حمل الشيخ عبد القاهر أقوال القاضي على محمل معين؛ ولذلك نسب إليه ما نسب، لكن باستطاعتنا أن نفسرها على غير الوجه الذي فسّرها به عبد القاهر؛ وذلك لأن أقوال عبد الجبار بمجموعها تنفي ما ذهب إليه الشيخ، فمثلاً بعد أن يذكر أن الفصاحة تظهر في الكلمات المضمومة يُعدّد وجوهاً ثلاثة تظهر بها مزية الفصاحة، يقول: "فالذي تظهر به المزية، ليس إلا الإبدال الذي به تختص الكلمات، أو التقدم والتأخر الذي يختص الموقع، أو الحركات التي تختص الإعراب، فبذلك تقع المباينة، ولا بدّ من الكلامين اللذين أحدهما أفصح من الآخر أن يكون إنما زاد عليه بكل ذلك أو ببعضه" (23).
ويقول: "فإنْ قال: أفيمكن حصر هذا العلم، الذي يمكن معه إيراد الكلام الفصيح، والذي يتميز به، مما فوقه في الفصاحة ودونه؟
قيل له: قد بيّنا ذلك في الجملة، وهو أن يعلم أفراد الكلمات، وكيفية ضمّها وتركيبها ومواقعها، فبحسب هذه العلوم والتفاضل فيها، يتفاضل ما يصح منهم من رتب الكلام الفصيح" (24).
أقواله هذه تدل على أنه نسب مزية الكلام الفصيح إلى معاني النحو وأحكامه؛ وذلك لأن قوله: "ضمّ على طريقة مخصوصة" يعني ترتيب الكلمات في الجملة على نحو معين، ينتج عنه معنى مفيد، وليس ضمّاً عشوائياً، لا ترتبط فيه الكلمة بجاراتها، فيغدو الكلام مفكّكاً مجزّءاً، لا يستطيع قارئه أن يقف له على وجه، ثم اشترط وجوهاً ثلاثة مع الضمّ، تنضوي جميعها تحت أحكام النحو، فبعد أن تضم الكلمات، لا بدّ أن تراعى فيها هذه الوجوه: الإبدال، وهو انتقاء الكلمة المناسبة للسياق، وموقع الكلمة في الجملة تقديماً وتأخيراً، وحركة إعرابها التي تلقي ضوءاً على معناها.
وهذه الوجوه الثلاثة من معاني النحو التي يتميز بها نظم الكلام.
وقد اعترف الشيخ عبد القاهر بأن كلام القاضي عبد الجبار ينطوي على إثبات المزية لمعاني النحو، حين قال: "فقولهم: "بالضمّ" لا يصح أن يراد به النطق باللفظة بعد اللفظة، من غير اتصال يكون بين معنييهما؛ لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضمّ اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة، لكان ينبغي إذا قيل: "ضحك"، "خرج" أن يحدث في ضمّ "خرج" إلى "ضحك" فصاحة! وإذا بطل ذلك لم يبقَ إلا أن يكون المعنى في ضمّ الكلمة إلى الكلمة، توخي معنى من معاني النحو فيما بينهما" (25).
ولكنه يرى أن عبد الجبار دُفع إلى هذا دفعاً من حيث لا يدري، ولعل قول الأخير: إن الفصاحة تظهر "بالضم على طريقة مخصوصة" غير كافٍ بالنسبة لعبد القاهر، حيث حمله على أنه ضمّ اللفظة إلى اللفظة بغضّ النظر عن المعاني التي تربط بينها، والسبب في هذا ـ كما يقول عبد القاهر ـ أنه يطلب المزية في الألفاظ، ويهمل المعاني، فيجعل الفصاحة وصفاً للكلمات المضمومة، لا من أجل معانيها، بل من أجل أنفسها.
وإذا أبطلنا السبب الذي من أجله نفى عبد القاهر أن يكون عبد الجبار قد قصد إثبات المزية لمعاني النحو (26)، يمكننا أن نصل ـ من وجه آخر غير الذي فُهم من كلامه مباشرة ـ إلى أن عبد الجبار أدرك أن مزية الكلام في توخي معاني النحو، وأنه لم يُدفع إلى هذا دفعاً:
لعل عبد القاهر أيّد ما ذهب إليه ـ من أن عبد الجبار يطلب المزية في اللفظ ـ بما ورد في كتاب (المغني)، حيث قال عبد الجبار: "فإن قال: فقد قلتم في أن جملة ما يدخل في الفصاحة حسن المعنى، فهلا اعتبرتموه؟ قيل له: إن المعاني وإن كان لا بد منها، فلا تظهر فيها المزية، وإنْ كان تظهر في الكلام لأجلها"، واستدل على هذا بأمور: "نجد المعبِّرَين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر، والمعنى متفق، وقد يكون أحد المعنيين أحسن وأرفع، والمعبِّر عنه في الفصاحة أدون، فهو مما لا بدّ من اعتباره، وإنْ كانت المزية تظهر بغيره"، ثم قال: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد، فإذن يجب أن يكون الذي يُعتَبَر: التزايد عند الألفاظ التي يُعَبَّر بها عنها على ما ذكرناه".
وفي موضع آخر نفى أن يكون التحدي بالمعاني، وبيّن أن الذي يظهر به التفاضل الوجوه الثلاثة التي ذكرها دون المعاني، وإنْ كان حسن المعاني كالشرط، وكالمؤثر في هذا الباب (27)، وقال: "كما نعلم أن حسن المعنى يؤكد كون الكلام الفصيح معجزاً، وإنْ كان لو انفرد لم يختص لهذه الصفة" (28).
¥