قد تكون هذه الأقوال هي التي جعلت عبد القاهر يرى أن عبد الجبار قصر نظره على تعلّق الألفاظ بعضها ببعض من حيث هي ألفاظ، بعيداً عن معانيها.
ويبدو لي أن الشيخ عبد القاهر بالغ في هذا الأمر، فمَن له أدنى علم باللغة، وبتركيب الكلام يعلم أن ضمّ الكلمات بعضها إلى بعض يخضع لما تحمله الكلمات من المعاني، فكيف بالقاضي عبد الجبار، وهو العلامة المتكلم، المعروف بتصانيفه البلاغية؟! ألا يعلم أن تعلّق الكلمات بعضها ببعض يكون فيما بين معانيها، لا فيما بينها أنفسها؟
لقد حاولت أن أفهم كلام القاضي بما يتماشى مع تصريحاته التي تؤكد إثبات المزية للوجوه الثلاثة التي تُعدُّ من معاني النحو:
فقوله: "إن المعاني، وإنْ كان لا بدّ منها، فلا تظهر فيها المزية"، يقصد بالمعاني هنا: الموضوعات، وليس المعاني التي بين الكَلِم، وهذا واضح من سياق الكلام الذي بعده: "نجد المعبّرَين عن المعنى الواحد يكون أحدهما أفصح من الآخر والمعنى متفق"، أي أن الفكرة أو الموضوع المعبَّر عنه واحد، ثم يتنافس المتنافسون في التعبير عنه بطرق مختلفة تتفاوت في ميزان الفصاحة، وكذلك حديثه عن التحدي، فهو يقصد أن الموضوعات ليست هي محل التحدي.
وهذا الذي قاله عبد الجبار قاله كذلك عبد القاهر: "وقد أردت أن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعِرَين فيه قد قالا في معنى واحد، وهو ينقسم قسمين: قسمٌ أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غُفلاً ساذجاً، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتُعجِب، وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوّر" (29).
وقال في التحدي: ". . . فإن التحدي كان إلى أن يجيئوا في أيّ معنى شاءوا من المعاني، بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرُب منه، يدل على ذلك قوله تعالى:?قل فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ? [هود:13]، أي مثله في النظم، وليكن المعنى مفترىً لما قلتم، فلا إلى المعنى دُعيتم، ولكن إلى النظم" (30).
أما قول عبد الجبار: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد. . . " فقد ذكر له عبد القاهر تفسيرين:
الأول: أن المزية في حاقّ اللفظ، ورفض هذا التفسير ووصفه بأنه موهِم.
الثاني: أن تجعل (تزايد الألفاظ) عبارة عن المزايا التي تحدث من توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، ويرى أنه المعنى الصحيح الوحيد الذي يمكن أن تُحمل عليه هذه العبارة، وقد افترض أن عبد الجبار عنى التفسير الأول، وافتراضه هذا ينسجم مع تفسيراته السابقة لكلام القاضي.
بيد أن عبد الجبار نفى صراحة أن تكون المزية للفظ، حيث يقول ـ بعد أن ذكر الوجوه الثلاثة التي تظهر بها مزية الكلام ـ: "وهذا يبين أن المعتبر في المزية ليس بنية اللفظ، وأن المعتبر فيه ما ذكرناه من الوجوه" (31)، وأرى أن قوله: "على أنّا نعلم أن المعاني لا يقع فيها تزايد. . ." يُفهم على أنه يمكن التعبير عن المعنى الواحد بصور متعددة، تتزايد تبعاً للوجوه التي ذكرها، وهذا المفهوم لا يتعارض مع فكرة النظم.
~*¤ ô§ô¤*~???~*¤ô§ô¤*~
بات واضحاً الآن أن عبد الجبار لم يقصد إثبات المزية للفظ، بل أكّد ـ في أكثر من موضع ـ أن المزية ثابتة للوجوه الثلاثة التي ذكرها، والتي تدخل في باب أحكام النحو، وبهذا يبطل السبب الذي من أجله نفى عبد القاهر أن يكون عبد الجبار قصد من كلامه إثبات المزية لمعاني النحو.
وإذا بطل السبب بطلت النتيجة المبنية عليه، فيثبت أن عبد الجبار قصد من كلامه إثبات المزية لمعاني النحو، وإنْ لم يسمها بهذا الاسم.
*·~-.¸¸,.-~*???*·~-.¸¸,.-~*
أردتُ من هذه المناقشة أن أصل إلى الحقيقة في قضيتين:
الأولى: هل اعتمد الشيخ عبد القاهر أقوال القاضي عبد الجبار، وبنى عليها، كما هو شائع عند الدارسين؟
الثانية: إنْ لم يكن اعتمدها، فهل هذا ينفي فضل القاضي عبد الجبار في تطوير فكرة النظم؟
ووصلتُ إلى أن الشيخ عبد القاهر رفض أقوال القاضي عبد الجبار، ورأى أنها مخالفة لرؤيته للنظم التي تقوم على توخي معاني النحو، فما عليه أكثر الدارسين (وهو أن عبد القاهر أفاد من عبد الجبار) مخالف للحقيقة الثابتة التي تنطق بها صفحات كتاب (الدلائل)، فالشيخ نفسه ينفي صحة أقوال القاضي، فكيف له أن يستعين بها ويطوّرها؟!
هذا ما يتعلق بالقضية الأولى.
¥