تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن الأحاديث الصحيحة التي لها دلالة: ما رواه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفا، إكراما للميت، فقال له الصحابة: يا رسول الله؛ إنها جنازة يهودي! (يريدون أنها ليهودي أي أنها ليست جنازة مسلم) فقال عليه صلى الله عليه وسلم- وما أروع ما قال-: "أليست نفسا؟! [6] ". فما أروع الموقف المحمدي، وما أروع التفسير والتعليل؛ "أليست نفسا؟! " بلى إنها نفس إنسانية، ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكانة. وهذا على الرغم مما وقع من اليهود من الإساءات الكثيرة للرسول ولأصحابه.

البر والقسط للمسالمين من غير المسلمين

والركيزة السادسة: إقرار التعامل بالبر والقسط مع المسالمين من غير المسلمين، وهو ما سجلتُه في أول كتاب لي دخلت به ميدان التأليف العلمي، وهو كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان. فقد ذكرت في فصل (علاقة المسلم بغير المسلم) ما يلي: إذا أردنا أن نجمل تعليمات الإسلام في معاملة المخالفين له - في ضوء ما يحل وما يحرم- فحسبنا آيتان من كتاب الله، جديرتان أن تكونا دستورا جامعا في هذا الشأن. وهما قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} سورة الممتحنة:8،9.

فالآية الأولى لم ترغب في العدل والإقساط فحسب إلى غير المسلمين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم - أي أولئك الذين لا حرب ولا عداوة بينهم وبين المسلمين- بل رغبت الآية في برهم والإقساط إليهم. والبر كلمة جامعة لمعاني الخير والتوسع فيه، فهو أمر فوق العدل. وهي الكلمة التي يعبر بها المسلمون عن أوجب الحقوق البشرية عليهم، وذلك هو (برُّ) الوالدين. وإنما قلنا: إن الآية رغبت في ذلك لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} والمؤمن يسعى دائما إلى تحقيق ما يحبه الله. ولا ينفي معنى الترغيب والطلب في الآية: أنها جاءت بلفظ {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} فهذا التعبير قصد به نفي ما كان عالقا بالأذهان - وما يزال- أن المخالف في الدين لا يستحق برا ولا قسطا، ولا مودة ولا حسن عشرة. فبيّن الله تعالى أنه لا ينهى المؤمنين عن ذلك مع كل المخالفين لهم، بل مع المحاربين لهم، العادين عليهم.

العداوات بين الناس ليست أمرا دائما

والركيزة السابعة، التي قررها الإسلام، وعلّمها للمسلمين، وغرسها في عقولهم وضمائرهم: أن الناس قد يعادي بعضهم بعضا، لأسباب مختلفة، دينية أو دنيوية، ولكن هذه العداوات – على حق كان أو على باطل- لا تدوم أبد الدهر، فالقلوب تتغير، والأحوال تتبدل، وعدو الأمس قد يصبح صديق اليوم، وبعيد اليوم قد يصبح قريب الغد، وهذه قاعدة مهمة في علاقات الناس بعضهم ببعض، فلا ينبغي أن يسرفوا في العداوة، حتى لا يبقوا للصلح موضعا، وهذا ما نبه إليه القرآن بوضوح بعد نهيه عن موالاة أعداء الله وأعداء المسلمين في أول سورة الممتحنة، وضرب مثلا بصلابة إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة:4). بعد هذا قال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة:7).

فهذا الرجاء من الله سبحانه الذي ذكره بكلمة (عسى) يملأ القلوب أملا بتغيير القلوب من العداوة والبغضاء إلى المودة والمحبة، والله قدير على تغيير القلوب، فهو الذي يقلبها كيف يشاء، والله غفور لما مضى من الأحقاد والضغائن، رحيم بعباده الذين تصفو قلوبهم، ولا عجب أن اشتهر بين المسلمين قولهم: وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما [7].

الدعوة إلى الحوار بالتي هي أحسن:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير