من هنا يتوجب علينا الخروج من الفهم التقليدي للألفاظ العربية نحو أفق أسمى يستشم المعنى الإيحائي العام منها، وهذا الخروج ضروري لفهم القرآن الحكيم، إذ إنه في قمة البلاغة التي تتلخص في رعاية التناسب الشامل بين الموضوع واللفظ وبين الواقع والتعبير، فيكون كشف المنحنيات التفسيرية والإيحاءات اللفظية ذا أهمية خاصة في القرآن أكثر من أي كتاب آخر.
والخروج من الفهم التقليدي يكون بقياس موارد الاستعمال بعضها ببعض لمعرفة المعنى الحقيقي للفظ ما.
من هنا يجدر بالذي يريد التدبر في القرآن ذاته، أن يبحث عن المعنى المحدد للكلمة في آيات القرآن ذاته؛ ليجد بذلك المعنى الدقيق الذي يقصده القرآن ().
وهذا لأن كل كلمة في القرآن وضعت في محلها الطبيعي، بحيث لا يمكن أن تسد كلمة أخرى مكانها، ولا أن تعطي الظلال نفسها التي كانت تعطيها تلك الكلمة. وما أجمل ما قاله ابن عطية: "وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظة غيرها لم يوجد، ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضعَ؛ لقصورنا عن مرتبة العرب -يومئذ- في سلامة الذوق، وجودة القريحة" ().
وهذا ما يدفعنا إلى البحث عن حكمة استخدام القرآن الكريم لهذه الكلمة لا غيرها، وبهذا الشكل لا غيره.
وفي هذا البحث محاولة لتطبيق هذا المنهج على مثال واحد وهو كلمتي: (الخوف) و (الخشية) والفرق بينهما.
ولكن قبل ذلك لا بد من وقفة سريعة مع قضية متصلة اتصالاً مباشراً بهذا السياق ألا وهي قضية الترادف.
الفصل الأول
الترادف
المبحث الأول: الترادف لغة واصطلاحاً:
المطلب الأول: الترادف لغة:
قال ابن منظور: الرِّدْفُ ما تَبِعَ الشيءَ. وكل شيء تَبِع شيئاً فهو رِدْفُه، وإذا تَتابع شيء خلف شيء فهو التَّرادُفُ، والجمع الرُّدافَى ... ويقال: جاء القوم رُدافَى؛ أَي: بعضهم يتبع بعضاً ... وقيل: الرُّدافَى الرَّدِيف. وهذا أَمْر ليس له رِدْفٌ؛ أَي: ليس له تَبِعةٌ. وأَرْدَفَه أَمْرٌ: لغةٌ في رَدِفَه مثل: تَبِعَهُ وأَتْبَعَه بمعنًى ... وفي حديث بَدْر: فأَمَدّهُمُ اللّه بأَلفٍ من الملائكة مُرْدِفِينَ؛ أَي: مُتتابعينَ يَرْدَفُ بعضُهم بعضاً ... وتَرَادَفَ الشيءُ: تَبِع بعضُه بعضاً. والترادفُ: التتابع. قال الأَصمعي: تَعاوَنُوا عليه وتَرادفوا بمعنى.
وقال الجوهري: الرَدْفُ: المُرْتَدَفُ، وهو الذي يركب خلف الراكب. وأَرْدَفْتُهُ أنا، إذا أركَبته معك، وذلك الموضع الذي يركبه رِدافٌ. وكلُّ شيء تبِعَ شيئاً فهو رِدْفَهُ. وهذا أمرٌ ليس له رِدْفٌ، أي ليس له تَبِعَةٌ. والرِدْفانِ: الليلُ والنهارُ.
وقال الفيروزآبادي: الرِّدْفُ، بالكسرِ الراكِبُ خَلْفَ الراكِبِ، كالمُرْتَدِفِ والرَّديفِ والرُّدافَى، كحُبارَى، وكلُّ ما تَبعَ شيئاً ...
ونلحظ من مجموع ما نقلناه أن الترادف يدور معناه على التتابع والتعاون والركوب.
المطلب الثاني: الترادف اصطلاحاً:
اختلف العلماء في تعريف الترادف، ومن التعريفات التي ذكروها:
قال سيبويه: "اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين ... فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب. واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق. واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدت عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وجدان الضّالة".
ويمكن أن نستنتج من كلام سيبويه أنه أول من أشار إلى ظاهرة الترادف حين قسم علاقة الألفاظ بالمعاني كما رأينا. ونستنتج أيضاً أنه يرى أن الترادف هو اختلاف اللفظين والمعنى واحد، وضرب على ذلك مثلاً هو ذهب وانطلق.
وقال الجرجاني: "الترادف عبارة عن الاتحاد في المفهوم، وقيل: هو توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد".
المبحث الثاني: الترادف بين الإثبات والإنكار:
إن أساس هذه القضية يعود إلى أصل نشأة اللغة، ومعلوم أن علماء اللغة مختلفون في هذه المسألة على رأيين: أحدهما يرى التوقيف في أصل نشأة اللغة، وأن الله علّم آدم الأسماء كلها، ورأي آخر يرى أن اللغة قائمة في أصلها على الاصطلاح والتواضع. وتبعاً لهذين الرأيين انقسم علماء اللغة إلى قسمين في قضية الترادف:
أولاً: إنكار الترادف:
¥