مُسْتَنَد لا يُقْبَل، بَلْ الرِّوَايَة صَحِيحَة وَالتَّأْوِيل مُحْتَمَل، والإجْمَاع الَّذِي نَقَلَهُ إِنْ أَرَادَ شُمُوله لِكُلِّ عَصْر فَهُوَ مَخْدُوش، وَإِنْ أَرَادَ اِسْتِقْرَاره فَهُوَ مَقْبُول. وَقَدْ قَالَ اِبْن الصَّبَّاغ فِي الكلام عَلَى مَانِعِي الزَّكَاة: وَإِنَّمَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْر عَلَى مَنْع الزَّكَاة وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكْفُرُوا لأَنَّ الْإِجْمَاع لَمْ يَكُنْ يَسْتَقِرّ. قَالَ: وَنَحْنُ الآن نُكَفِّر مَنْ جَحَدَهَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ اِبْن مَسْعُود فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَثْبُت عِنْده الْقَطْع بِذَلِكَ، ثُمَّ حَصَلَ الاتِّفَاق بَعْد ذَلِكَ. وَقَدْ اِسْتَشْكَلَ هَذَا الْمَوْضِع الْفَخْرُ الرَّازِيَُّ فَقَالَ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ كَوْنهمَا مِنْ الْقُرْآن كَانَ مُتَوَاتِرًا فِي عَصْر اِبْن مَسْعُود لَزِمَ تَكْفِير مَنْ أَنْكَرَهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ كَوْنهمَا مِنْ الْقُرْآن كَانَ لَمْ يَتَوَاتَر فِي عَصْر اِبْن مَسْعُود لَزِمَ أَنَّ بَعْض الْقُرْآن لَمْ يَتَوَاتَر. قَالَ: وَهَذِهِ عُقْدَة صَعْبَة. وَأُجِيبَ بِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاتِرًا فِي عَصْر اِبْن مَسْعُود لَكِنْ لَمْ يَتَوَاتَر عِنْد اِبْن مَسْعُود فَانْحَلَّتْ الْعُقْدَة بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى.
• ومن المعاصرين الشيخ: عبد الرحمن دمشقية حيث قال (): وعلى افتراض ثبوت السند إلى عبد الله بن مسعود في إنكاره للمعوذتين فإن لذلك توجيهات مهمة:
1. أن هذا الصحيح المفترض لا يبلغ في درجة صحته قراءة عاصم عن ابن مسعود المتواترة والتي تضمنت المعوذتين والفاتحة.
2. أن هذا كان منه في فترة وجيزة بين موت رسول الله إلى أن تم جمع الصحابة على القرآن بالإجماع. فأما بعد هذا فلم يحك عنه شيء من الإصرار على ذلك. وكان يدرس القرآن ويفسره على الناس طيلة حياته بعد رسول الله إلى أن توفاه الله. ولم يحك عنه بعد الجمع أي إصرار أو استنكار. ولو أنه بقي على موقفه لبلغنا ذلك كما بلغنا إصرار بعض الصحابة كابن عباس الذي بقي حتى خلافة عمر وهو يظن أنه لم يرد من النبي كلام حول تحريم متعة النساء.
3. أن هذا القول قد صدر منه ولم يكن الإجماع قد استقر بعد. فأما لو ثبت عن أحد المنازعة فيه بعد إجماع الصحابة ? عليه فهو منهم كفر. ولهذا حكمنا بالكفر في حق كل من شكك في القرآن من الرافضة بعد استقرار الإجماع على هذا القرآن الذي بين أيدينا.
4. أن هذا يؤكد ما نذهب إليه دائما من أن الصحابة ليسوا غير معصومين في آحادهم، وإنما هم معصومون بإجماعهم. وهم لن يجمعوا على ضلالة.
• ومن المعاصرين كذلك الشيخ / ناصر الماجد () , فقد ذكر في رد له على سؤال حول ذلك:
" هذا المروي عن ابن مسعود ? اجتهاد منه، بحسب ما انتهى إليه علمه، إذ ظن أنهما دعاء كان النبي ? يتعوذ بهما، وهو بشر غير معصوم يصيب ويخطئ، كما يصيب البشر ويخطئون، ولا عصمة لقول أحد بعد النبي ? ولذا رأينا الصحابة ? لم يقروه على قوله بل خالفوه، وأجمعوا على إثبات المعوذتين في المصحف الإمام وفي سائر المصاحف التي أُرسلت إلى الأمصار، ولم ينقل عن أحد من الصحابة ? أنه تابع ابن مسعود ? على قوله هذا بل رأينا أبي بن كعب ? يخالفه في ذلك استنادا إلى ما ثبت عن النبي ?فقد أخرج أحمد (21186) وغيره بسند صحيح عن زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب ?: إن ابن مسعود ? كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه! فقال: أشهد أن رسول الله ? أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له: "قل أعوذ برب الفلق" فقلتها، فقال":قل أعوذ برب الناس" فقلتها، فنحن نقول ما قال النبي ?.
ومن المتقرر؛ أن من حفظ وعلم، حجة على من لم يحفظ ولم يعلم، فابن مسعود ? لم يحفظ ولم يعلم هاتين السورتين، وغيره من سائر الصحابة ? علمها وحفظها فالحجة لهم عليه.
وكذلك لم ينقل عن أحد من تلاميذ ابن مسعود ? ـ مع كثرتهم وجلالة قدرهم ـ أنه تابعه على قوله هذا، بل ثبت عن بعضهم مخالفته صراحة فقد روى ابن أبي شيبة (30197) عن النخعي قال: قلت للأسود بن يزيد ـ وكان من أعلم أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه من القرآن هما؟ قال: نعم، يعني المعوذتين. وفوق هذا أن إجماع الأمة كلها من عهد الصحابة ?إلى يومنا على إثبات هاتين السورتين أبلغ دليل على خطأ هذا القول" ا. ه
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات , والصلاة والسلام على من بعثه الله بالهدى والخيرات , أما بعد:
ففي ختام هذا البحث المختصر الماتع أحمد الله تعالى أن وفقني لحل هذا الإشكال , وإزالة هذه الشبهة العضال , وأسطر فيما يلي أهم نتائج هذا البحث:
من وجهة نظري القاصرة والله أعلم حول هذا الإشكال ما يلي:
أولاً: أن بعض الروايات التي وردت عن ابن مسعود ?, ثابتة وصحيحة , فتصحيح بعض العلماء لها ومنهم الإمام ابن حجر وهو العلم البحر في هذا العلم دليل على صحتها عن ابن مسعود ?.
ومن هذه الروايات الصحيحة:
1. عن عبد الرحمن بن يزيد قال رأيت عبد الله يحك المعوذتين ويقول لم تزيدون ماليس فيه.
2. وفي رواية: لا تخلطوا فيه ما ليس منه.
3. وفي رواية عنه: أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول ليستا من كلام الله.
(أخرج هذه الرويات الثلاث الطبراني وقد سبق ذكرهما في المبحث الأول)
ثانياً: أن هذه الروايات الصحيحة عنه لا تبلغ في درجة صحتها قراءة عاصم عن ابن مسعود المتواترة والتي تضمنت المعوذتين.
ثالثاً: أن من أحسن ما أجيب على ذلك أن ابن مسعود لَمْ يُنكِر كَونهمَا مِن الْقُرآن وَإِنّمَا أَنْكرَ إِثْبَاتهمَا فِي الْمُصْحَف، فَإِنَّهُ كان يرَى أن لا يَكْتُب فِي الْمُصْحف شيئًا إلا إن كَان النَّبي ? أذن في كتابته فيه، وكأنه لم يبلغه الإذن في ذلك.
رابعاً: أن هذا كان منه في فترة وجيزة بين موت رسول الله إلى أن تم جمع الصحابة على القرآن بالإجماع. فأما بعد هذا فلم يحك عنه شيء من الإصرار على ذلك.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
¥