وقال ابن القيم في مدارج السالكين أيضا 3/ 330: (اعلم أن في لسان القوم من الاستعارات، وإطلاق العام وإرادة الخاص، وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف غيرهم ولهذا يقولون: نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة , والإشارة لنا والعبارة لغيرنا) اه
وقال ابن القيم في مدارج السالكين أيضا 2/ 406: (وإذا امتلأ القلب بشيء، وارتفعت المباينة الشديدة بين الظاهر والباطن أدت الأذن إلى القلب من المسموع ما يناسبه، وإن لم يدل عليه ذلك المسموع ولا قصده المتكلم , ولا يختص ذلك بالكلام الدال على معنى بل قد يقع في الأصوات المجردة
قال القشيري: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي ورجل يستقي الماء من البئر على بكرة. فقال: يا أبا عبد الرحمن، أتدري إيش تقول هذه البكرة؟ فقلت: لا، فقال تقول: (الله الله) , ومثل ذلك كثير كما سمع أبو سليمان الدمشقي من المنادي: يا سعتر بري: إسعَ ترَ بِرِّي) اه
وقصة يا سعتر برّي التي أشار إليها ابن القيم هي بتمامها في شرح الحكم لابن عجيبة ص 262 حيث قال: (وقد يختلف الشرب لجماعة من آنية واحدة لاختلاف مقامهم كقضية الرجال الذين سمعوا قائلا يقول: يا سعتر بري , وذلك أن رجلا في الصفا بمكة صاح يا سعتر بري لرجل آخر كان اسمه ذلك فسمعه الثلاثة فكل واحد تعلق بذهنه ما يليق بحاله
فسمع أحدهم: الساعة ترى بِرّي , وسمع آخر: إسعَ ترَ برّي , وسمع الثالث: ما أوسعَ برّي ... ) اه
وقال ابن عاشور في تفسيره 1/ 16: (ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر: هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلا للنار فجعل يبكي ويقول: إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار) اه
ومما يحكى في هذا الباب:
-أن أحد العارفين سمع بائعا في السوق يقول: الخيار بعشرة الخيار بعشرة , فتواجد وقال: إذا كان الخيار بعشرة فكيف الأشرار
-وسمع عارفٌ آخر امرأةً تنادي الناس ليمسكوا لها ابنها الهارب وتقول: خذوه , خذوه , فتواجد وأخذه الحال وصاح , تذكر بذلك قول الله تعالى (خذوه فغلوه ... )
-وعندما سُئل الجنيد رحمه الله عن سكونه عند الإنشاد مع تواجد غيره قال: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب)
-وآخر حضر عقد زواج فجعل بعضهم ينادي: هاتوا النار [أي نار البخور] هاتوا الشهود [أي شهود النكاح] , فخرج من المجلس وهامَ على وجهه تذكّر بذلك نار الآخرة وشهود يوم القيامة
-وآخر سمع امرأة تعنف ابنتها , فتقول البنت لأمها: سأقول لأبي , فقالت الأم: ما يفعل لك أبوك؟ فقالت البنت: وهل معي غيره , فغشي على الرجل , فلما أفاق قالوا له مالك؟ فقال: وهل معي غيره؟!
المبحث السابع
ذكر بعض التفاسير التي تهتم بالتفسير الإشاري:
قال الزرقاني في مناهل العرفان 2/ 59 وما بعدها: (وأهم كتب التفسير الإشاري أربعة: تفسير النيسابوري , وتفسير الألوسي , وتفسير التستري , وتفسير محيي الدين بن عربي) اه
ثم ذكر تعريف موجز بكل تفسير وأمثلة على التفسير الإشاري من تلك التفاسير , ثم قال عن تفسير ابن عربي: (بيد أن هذا التفسير كما ترى جاء كله على هذا النمط دون أن يتعرض لبيان المعاني الوضعية للنصوص القرآنية وهنا الخطر كل الخطر فإنه يخاف على مطالعه أن يفهم أن هذه المعاني الإشارية هي مراد الخالق إلى خلقه في الهداية إلى تعاليم الإسلام والإرشاد إلى حقائق هذا الدين الذي ارتضاه لهم
ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة بل الإسلام كله ما هي إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية كتاب الله وسنة رسول الله
والأدهى من ذاك أنهم يتخيلون ويخيلون إلى الناس أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية واتصلوا بالله اتصالا أسقط عنهم التكليف وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب
¥