تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الوقفةُ الثالثةُ: قوله:" إنّ الحديثَ القُدْسِيَّ يرويهِ عن رَبِّهِ مباشرةً بدونِ واسطةٍ "، حَصْرٌ لا دليلَ عليه، وليسَ بمحلِّ اتّفاقٍ؛ بل هو وَحْيٌ كسائرِ الوحيِ يكونُ بإحدى طُُرُقِهِ التي نصَّت عليها الآيةُ كما في قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى:51)، قال البغويُّ:" {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً} يُوحِي إليه في المنامِ، أو بالإلهامِ، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} يُسمِعُهُ كلامَهُ ولا يراهُ، كما كلّمَهُ موسى ?، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} إمّا جبريل ? أو غيره مِن الملائكةِ ". ()

وقالَ ابنُ حجرٍ العسقلاني عند شرحه لحديثِ [إنّ الله كَتَبَ الحسناتِ والسيِّئاتِ ... ] ():" قوله:" فيما يرويه عن رَبِّهِ " هذا مِن الأحاديثِ الإلهيّةِ، ثم هو مُحتملٌ أنْ يكونَ مِمّا تلقّاهُ ? عن رَبِّهِ بلا واسطةٍ، ويحتملُ أنْ يكونَ مِمّا تلقَّاهُ بواسطةِ المَلَكِ وهو الراجحُ ". ()

وقال ابنُ حجرٍ الهيتميُّ ():" ولا تَنحصرُ تلكَ الأحاديث القدسية في كيفيةٍ مِن كيفياتِ الوَحْيِ، بل يجوزُ أنْ تنزل بأيِّ كيفيةٍ مِن كيفياتهِ، كرؤيا النومِ، والإلقاءِ في الرَّوْعِ وعلى لسانِ الملَكِ ". ()

وبهذا التقريرِ يتبيَّنُ لكَ أنّ قولَ الشيخِ رحمه الله:" لو كانَ الحديث القُدْسِيُّ مِن عند الله لفظًا ومعنىً؛ لكانَ أعلى سندًا مِن القرآنِ؛ لأنّ النبيَّ ? يرويه عن رَبِّهِ تعالى بدونِ واسطةٍ، كما هو ظاهر السياقِ، أمّا القرآنَُ فنزلَ على النبيِّ ? بواسطةِ جبريلَ ? "، لا يُسلَّمُ لأمرينِ:

الأمرُ الأول: أنّ الحديثَ القُدْسِيَّ وَحْيٌ كسائرِ الوحيِ، مِنه ما هو بواسطةٍ ومِنه ما هو بدونِ واسطةٍ؛ كما تقدّمَ عن ابن حجرٍ الهيتميِّ؛ بل رَجَّحَ ابنُ حجرٍ العسقلانيّ أنْ يكونَ بواسطةِ الملَكِ، وإنّما جُعِلَ القرآنُ كُلُّهُ بواسطةِ جبريلَ ? وهو المسمَّى بالوَحْيِ الجَلِيِّ تعظيمًا له وتشريفًا، وأَدْعَى لِحفْظِهِ.

الأمرُ الثاني: السنّةُ وَحْيٌ مِن الله أيضًا - كما دلّتْ على ذلكَ أحاديث كثيرة أشهرُ مِن أنْ تُذكرَ – وجاءت بواسطةِ جبريلَ ? وبدونِ واسطةٍ، ولم يقلْ أحدٌ أنّها أعلى سندًا مِن القرآنِ.

بل قال الجرجانيُّ () رحمه الله – وهو مِن القائلينَ بأنّ لفظَ الحديثِ القدسيِّ مِن

الرسولِ ? - بأنّ القرآنَ أفضلُ لأنّ القرآنَ نَزَلَ لفظهُ ومعناهُ بخلافِ الحديثِ القُدْسِيِّ. ()

الوقفةُ الرابعةُ: ذكر الشيخُ رحمه الله خلافَ أهلِ العلمِ في مسألةِ: لفظُ الحديثِ القُدْسِيِّ هلْ هُوَ مِن الله أمْ مِن النبيِّ ?، وذكرَ ثلاثةَ أقوالٍ:

القول الأول: أنّ المعنى مِن الله، واللفظُ مِن الرسولِ ?، وهو رأْيُ الشيخِ ابن عثيمين الذي اشتهر عنه، وخُلاصةُ أدلَّتِهِ ما يلي:

الدليل الأول: لو كانَ الحديث القُدْسِيُّ مِن عند الله لفظًا ومعنىً؛ لكانَ أعلى سندًا مِن القرآنِ؛ لأنّ النبيَّ ? يرويه عن رَبِّهِ تعالى بدونِ واسطةٍ، والقرآنَُ بواسطة.

الدليل الثاني: لو كانَ لفظُ الحديثِ القُدْسِيِّ مِن عند الله؛ لم يكنْ بينهُ وبينَ القرآنِ فَرْقٌ؛ لأنّ كِلَيْهِمَا على هذا التقديرِ كلامُ الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكمِ حينَ اتّفقَا في الأصلِ، ولذا:

-لو كان كلامَ الله لفظًا لتُعبِّدَ بتلاوتهِ كالقرآنِ.

-لو كان كلامَ الله لفظًا لجازتْ تلاوتهُ في الصلاةِ كالقرآنِ.

-لو كان كلامَ الله لفظًا لكانَ مُعْجِزًا كالقرآنِ.

-لو كان كلامَ الله لفظًا لما حصلَ الاختلافُ في ألفاظِ روايته؛ لأنّ كلامهُ تعالى مَحفوظٌ، ولهذا لا يُزاد في القرآنِ ولا يُنقص.

الدليل الثالث: أنّه لا مانعَ مِن أنْ يُقالَ: قال الله ويُرَادُ به معناه دون لفظهِ، كما في القرآنِ حيثُ قَصَّ الله علينا قصصًا عن أقوامٍ ذكرها الله بالمعنى دونَ اللفظِ.

وهذا القولُ قالَ به أكثرُ مَن وقفتُ على كلامهم وهو المرجَّحُ في غالبِ الكُتُبِ المعاصرةِ فيما رأيتُ. ()

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير