تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

القول الثاني: أنّ اللفظَ والمعنى مِن الله تعالى، ودليلهُ ما ذكره الشيخُ رحمه الله بقولهِ:

- أنّ النبيَّ ? أضافهُ إلى الله، ومِن المعلومِ أنّ الأصلَ في القولِ المضافِ أنْ يكونَ بلفظِ قائلهِ لا ناقلهِ، لا سِيَّمَا أنّ النبيَّ ? أقوى الناسِ أمانةً وأوثقهم روايةً.

القائلونَ بهِ:

قُلْتُ: وهذا القولُ يصحُّ نِسبتهُ إلى السلفِ رحمهم الله تعالى في القرونِ المفضَّلةِ، حيثُ كانوا يَرْوُونَهُ على أنّه مِن كلامِ الله تعالى، ولم يُذكر فيما أعلمُ عن أحدٍ مِنهم أنّه قالَ: إنّ اللفظَ مِن الرسولِ ?؛ بل كانوا يقولونَ: قالَ الله تعالى، أو: يقولُ الله تعالى.

وهو الذي يدلُّ عليه صنيعُ البخاريِّ رحمه الله حيثُ قالَ:" بابٌ قولُ الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} " () ثمّ ساقَ ما يقربُ مِن عشرةِ أحاديثَ قُدْسيَّةٍ، قال ابنُ حجرٍ مُعلِّقًا على ترجمةِ البابِ:" والذي يظهرُ أنّ غرضهُ أنّ كلامَ الله لا يختصُّ بالقرآنِ فإنّه ليسَ نوعًا واحدًا ". ()

ومِمّن قالَ به أيضًا: ابنُ حجرٍ الهيتميُّ ()،وهو الذي يُفهم مِن كلامِ شيخِ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله حيثُ قالَ في تعليقه على حديثٍ قُدْسيٍّ:" وهو مِن الأحاديثِ الإلهيّةِ التي رواها الرسولُ ? عن رَبِّهِ، وأخبرَ أنّها مِن كلامِ الله تعالى وإنْ لم تكنْ قرآنًا ". ()

القول الثالث: أنْ نَرْوِيها كما رواها النبيُّ ? مُقتصرينَ على ذلكَ بدونِ تكلُّفِ: هلِ اللفظُ مِن الله أم مِن الرسولِ ?؟ على طريقة المتقدِّمينَ حيثُ رَوَوْهَا ولم يتكلَّمُوا عن ذلكَ كما تقدّم، وهذا هو الذي مَالَ إليهِ الشيخُ رحمه الله في آخرِ حياتهِ؛ وجعلهُ أَوْلَى الأقوالِ وقالَ:" ولعلَّهُ الأَسْلَمْ " ().

وإنّمَا قُلْتُ إنّ هذا القولَ هو آخرُ أقوالِهِ لأنّه مُثْبَتٌ في شرحِ الأربعين النوويةِ، والتي شَرَحَها في صيف عام 1421 هـ ()، وهي السنةُ التي تُوفِّيَ فيها الشيخُ رحمه الله.

الترجيحُ: الأقربُ إلى الصوابِ - والله تعالى أعلمُ - هو القولُ بأنّ الحديثَ القُدْسِيَّ لَفْظُهُ ومعناهُ مِن الله تعالى؛ إذْ هو الأصلُ وليسَ عندنا دليلٌ ينقلُ هذا الأصلَ كما تقدّمَ، وأمّا ما استدلَّ به الشيخُ رحمه الله في ترجيحِ القولِ الأولِ فيُجابُ عنه بما يلي:

الجواب عن الدليلِ الأول: أنّه لو كانَ اللفظُ مِن الله لكانَ أعلى سندًا مِن القرآنِ، تقدّمتْ الإجابةُ عليه.

وأمّا الدليلِ الثاني وهو: أنّه لو كان لفظهُ مِن الله فلا بُدَّ أنْ تَثْبُتَ له أحكامُ القرآنِ، فيُجابُ عن ذلكَ بما يلي:

الكلامُ صفةٌ مِن صفاتِ الله تعالى الأَزَلِيَّةِ،ومِن الصفاتِ الفعليَّةِ حيثُ يتكلَّمُ الله متى شاءَ بما شاءَ، قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف:109) ومِن المقطوعِ به أنّه ليسَ كلُّ ما تكلّمَ به الله فهو قرآنٌ؛ بل القرآنُ هو: كلامُ الله المُنَزَّلُ على محمّدٍ ? بواسطةِ جبريلَ ? المتَعبَّدُ بتلاوتهِ المفتتَحُ بسورةِ الفاتحةِ والمختَتَمُ بسورةِ الناسِ، لا يقولُ أحدٌ بغير هذا مِن المسلمينَ، ولذا فليسَ كلُّ كلامِ الله تعالى يثبتُ له أحكامُ القرآنِ بالاتّفاقِ بل القرآنُ له مِن الخصوصيّةِ ما ليسَ لغيرهِ، وكَوْنُ الحديثِ القُدْسِيِّ لفظهُ مِن الله يلزمُ مِنه أن يثبتَ له أحكامُ القرآنِ إلزامٌ بما لا يلزمُ.

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ:" هذه الأحاديثُ الإلهيّة التي يَرويهَا الرسولُ ? عن

رَبِّهِ تعالى " ... إلى أنْ قالَ:" كلامٌ عربيٌّ مأثور عن الله، ومع هذا فليسَ قرآنًا ولا مثلَ القرآنِ لا لفظًا ولا معنىً ". ()

وقال الزرقانيُّ:" وصفوةُ القولِ في هذا المقامِ أنّ القرآنَ أُوحِيَتْ ألفاظُهُ مِن الله اتّفاقًا، وأنّ الحديثَ القُدْسِيَّ أُوحِيَتْ ألفاظُهُ مِن الله على المشهورِ، والحديثُ النبويُّ أُوحِيَتْ معانيهِ في غير ما اجتهدَ فيه الرسولُ والألفاظُ مِن الرسولِ ?.

بَيْدَ أنَ القرآنَ له خصائصهُ مِن الإعجازِ والتعبُّدِ به ووجوبِ المحافظةِ على آدائه بلفظهِ ونحو ذلكَ، وليسَ للحديثِ القُدْسِيِّ والنبويِّ شيءٌ مِن هذه الخصائص.

والحكمةُ مِن هذا التفريقِ أنّ الإعجازَ مَنُوطٌ بألفاظِ القرآنِ، فلو أُبِيْحَ أداؤه بالمعنى لَذهَبَ إعجازهُ، وكان مظنَّةً للتغيير والتبديلِ، واختلافِ الناسِ في أصلِ التشريعِ والتنْزيلِ.

أمّا الحديثُ القُدْسِيُّ والحديثُ النبويُّ فليستْ ألفاظهما مَناطَ إعجازٍ، ولهذا أباحَ الله روايتهما بالمعنى، ولم يمنحهما تلكَ الخصائصَ والقداسةَ الممتازة التي منحها القرآنَ الكريمَ، تخفيفًا على الأمّةِ ورعايةً لمصالحِ الخلقِ في الحالينِ مِن مَنحٍ ومَنعٍ، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ". ()

أمّا الدليلِ الثالث؛ وهو قوله:" أنه لا مانع مِن أنْ يُقال: قال الله ويُراد به معناه دونَ لفظه …" إلخ؛ فجوابه:

أنّهُ دليلٌ لا إشكالَ فيه لو دلَّ دليلٌ على أنّ اللفظَ مِن النبيِّ ? ولكنْ مع عدمِ الدليلِ فلا يستدلُّ به، أضفْ إلى أنّ القرآنَ عربيٌّ وهذه القَصَص التي وردتْ بالقرآنِ تكلّمَ بها أصحابها بغير العربيةِ بل بعضهُ بكلامٍ مِن نوعٍ آخرَ ككلامِ الهدهدِ وغيره؛ ولذا فقد تكلّمَ الله بها ? بلغةِ القرآنِ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء:195) وغيرُ خافٍ على مَن ينقل كلامًا مِن لُغةٍ إلى لُغةٍ فإنّما هو يتكلّمُ بالمعنى دونَ اللفظِ والله أعلمُ.

هذا ما توصَّلْتُ إليه في هذه المسألةِ؛ فما كان مِن صوابٍ فمن الله، وما كان مِن خطأٍ فمن نفسي والشيطان، والله سبحانه أعلمُ وأحكم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير