لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يملي القرآن على كتاب الوحي ويرشدهم إلى ترتيب الآيات والسور القرآنية، وقد ترك ترتيب السور في بادئ الأمر للصاحبة أنفسهم، ويقال: إن مصحف علي -رضي الله عنه- كان مرتباً حسب التنزيل، إذ ابتدأ بسورة اقرأ، فالمدثر، بالمزمل ... وهكذا.
وكانت نسخة الصحابي ابن مسعود تبدأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران، ونسخة الصحابي أبي بن كعب تبدأ بالفاتحة، فالبقرة، فالنساء، فآل عمران ... وهكذا، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما اكتمل نزول القرآن رتب سوره على النحو الذي بين أيدينا اليوم، وانتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن انتظم القرآن في مائة وأربع عشرة سورة، سميت كل صورة بما ابتدأت بها، أو بكلمة وردت فيها، أو بموضوع بارز، أو بقصة تدور حولها.
وعرفت بعض السور بأكثر من اسم، كسورة الفاتحة التي عرفت باسم " أم الكتاب، والسبع المثاني " و "الحمد "، وسورة التوبة بـ " براءة " وسورة الأسراء بـ " بني اسرائيل " وسورة فاطر بـ " الملائكة " وسورة المؤمن بـ " غافر " وسورة محمد -صلى الله عليه وسلم- بـ " القتال " وسورة النبأ بـ " عم ".
إن ترتيب السور على ما نراه اليوم، كترتيب الآيات هو توقيفي من الله -عز وجل- بالرغم من أنه لم يجمع بين دفتي مصحف واحد زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالقراء ومستظهرو القرآن كانوا كثيرين، وكان -عليه السلام- يترقب توالي نزول الوحي عليه، فالقرآن كله كتب في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير مجموع في مصحف واحد، وقد أغنى عنه حفظ الصحابة له في صدورهم.
قال الزركشي: " وإنما لم يكتب في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- مصحف لئلا يفضي إلى تغييره في كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته -صلى الله عليه وسلم- ".
وكان كل ما يكتب يوضع بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينسخ الكتاب لأنفسهم نسخة منه، فتعاونت نسخ هؤلاء الكتاب والصحف التي في بيت النبي مع حافظة الصحابة الأميين وغير الأميين على حفظ القرآن وصيانته، مصداقاً لقوله تعالى:
? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [سورة الحجر، الآية 9].
القرآن العظيم زمن أبو بكر وعمر رضي الله عنهما:
ألقت الخلافة قيادها إلى أبي بكر -رضي الله عنه- بعد غروب شمس النبوة، وواجته في خلافته مصاعب جمة، كانت أولاها في السنة الثانية عشرة للهجرة حين استشهد سبعون حافظاً أثناء موقعة اليمامة في حروب الردة، فهال الأمر سيدنا عمر بن الخطاب، وجاء يقترح على أبي بكر الخليفة جمع القرآن المكتوب متفرقاً في العظام والحجارة وسعف النخل والرقاع ومن أوراق وجدت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وشرح الله صدر أبي بكر فأخذ بمشورة عمر، وأسند المهمة لكاتب الوحي زيد بن ثابت، الذي شهر العرضة الأخيرة للقرآن في ختام حياته -صلى الله عليه وسلم- وزيد معروف بشدة ورعه، وعظم أمانته، وكمال خلقه.
يقول: زيد أرسل إليَّ أبا بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر: " إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن " قت لعمر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فقال عمر: " والله إن هذا خير " فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، وقد رأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: وقال أبوبكر: إنك رجل شاب لا أتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن فاجمعه، قال زيد: " فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن " قلت: " كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله -صلى عليه وسلم-؟ " .. فقال: " هو والله خير " .. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العشب واللخاف وصدور الرجال.
¥