تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتدارك عثمان الأمر فجمع أعلام الصحابة وتدارس معهم أمر هذه الفتنة وأسبابها وعلاجها، واجتمع الرأي على ضرورة عمل نسخ من القرآن الكريم ترسل للأمصار، وتكون أصلاً لقراءة كتاب الله وكتابته، يرجع إليها كلما دعت الحاجة.

وأرسل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- إلى أم المؤمنين حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها.

فشكل لجنة رباعية قوامها: زيد بن ثابت، و عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

وقد حددت مهمة اللجنة في أن تعمل على إخراج نص مكتوب للقرآن العظيم من الأصل المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة، وأوصى الرهط القرشيين الثلاثة قائلاً: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم.

وكانت مهمة اللجنة صعبة في التوفيق بين لهجات العرب، ولكن لهجة قريش كانت ملاذهم الأخير.

شرعت اللجنة الرباعية في تنفيذ قرار الخليفة عثمان سنة خمس وعشرين للهجرة، واستغرق العمل سنة بكاملها، نسخت فيه اللجنة أربع نسخ على الرق، أرسلها الخليفة إلى الكوفة والبصرة والشام، واحتفظ بنسخة له، وأمر بحرق كل صحيفة أو مصحف سواه.

وأرسل مع كل مصحف قارئًا ليضع بذلك حدًّا لأي خلاف واختلاف يقع في الرسم أم في القراءة.

فقد أرسل القارئ المغيرة بن هشام للشام، وأبا عبد الرحمن السلمي للكوفة، وعامر بن عبد القيس للبصرة.

قال سيدنا علي -رضي الله عنه-: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا، ولو وليت ما ولي لعملت في المصاحف ما عمل.

أعاد سيدنا عثمان بن عفان الصحف التي اطلعت عليها اللجنة لأم المؤمنين حفصة ابنة عمر -رضي الله عنها- فاحتفظت بها ولم تفرط فيها، فلما توفيت أخذها مروان بن الحكم من أخيها عبد الله بن عمر، فغسلها ثم أتلفها وأحرقها.

كتبت المصاحف الأولى بخط مكي مدني واضح بين محكم رصين، ليس فيها تشكيل ولا تنقيط، خالية من أسماء السور والفواصل، وبينها وبين الآيات مساحة قليلة فارغة ليس فيها ما يشير إليها، وبمداد حبر أسود على رق، وبمقاس كبير شبه مربع.

وبإملاء ورسم عرفا فيما بعد بالرسم العثماني، نسبة للخليفة عثمان -رضي الله عنه- مع أن عثمان لا علاقة له بهذا الرسم وهذا الإملاء، فلم يضع قواعده ولم يمل هجاءه، وإنما أمر بكتابته بذات الصورة التي كتب بها أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- والتي أوضحنا من قبل بأنها مستمدة من رسوم الأنباط الذين أثروا في إملاء العربية لحكمة أرادها الله.

لقد كتب الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- القرآن العظيم برسم إملائي يجد فيه الدارس اليوم بعض الغرابة؛ لأنه يطلق حكمه من منطلق تطور الرسم الذي نكتب به اليوم، بعد أن تطورت الكتابة وأخذ رسومها حذفًا ووصلاً لكلمات كثيرة.

وإن كثيرًا من الكلمات يتغير رسمها عن منطوقها أثناء درج الكلام وحين الوقوف، ولابد للمتأمل في الرسم أن يعلم أن قواعد الهجاء التي نكتب بها اليوم قد جاءت في مرحلة لاحقة بعد التطور الذي حل برسوم العربية من نقط وشكل وضبط.

ورسم المصحف بشكله القديم يفيد في توجيه القراءات التي نزل بها القرآن ولهجات العربية المختلفة.

فإضافة الألف مثلاً في ثمود في قوله: ? وَعَادًا وَثَمُودًا ? [الفرقان: 38] تفيد قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع؛ لأنهم قرءوها بالتنوين ? ثَمُودًا ?.

وزيادة الألف في "ملاقوا" "نصروا" "يعفوا" كزيادة الألف في "مائة" أو الواو في "أولئك"، كي لا تقرأ منه أو "إليك" لأن الكتابة كما نعلم لم تكن مشكولة ولا منقوطة من قبل.

وقد تحدثنا عن التأثيرات النبطية في الإملاء، كحذف الألف الطويلة كما في "العالمين".

وكتابة التاء المبسوطة في النبطية تكتب الأسماء المؤنثة بالتاء في معظم الحالات، كأن نكتب خالة "خلت"، ووائلة "ويلت"، وغزالة "غزلت"، وسنة "سنت".

إن سر الرسم القرآني العثماني يحتاج إلى دراسة مفصلة واعية بعيدة عن الهوى، وتتعلق بدراسة تطور الكتابة مما قبل عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لنحكم في النهاية على أن هذا الشكل من الرسم كان متطورًا في زمنه، ويوافق في كثير من الأحيان المنطوق المرسوم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير