رأى أثر المسفوح في صفحاته ... فقام لأخذ الثأر منه مؤيدُ
عندما نقل عبد المؤمن بن علي مصحف عثمان إلى المغرب احتفل الناس في الاعتناء بكسوته، وأبدلها فبعد أن كانت من الجلد القاتم كساه بصفائح الذهب المرصعة بالآلي النفسية والأحجار الكريمة من يواقيت وزمرد.
ولم يكن عبد المؤمن بن علي وحده الذي وجه اهتمامه بمصحف عثمان، فقد تابعهم في ذلك أبناؤه وأحفاده، فكانوا يتفنون في تزيينه بمزيد من الجواهر النادرة، وأضيفت الأحجار الكريمة لدفتيه حتى استوعبوهما وكانوا دائمًا يحضرونه في مجالسهم في ليالي رمضان، ويباشرون بالقراءة فيه، ويصفحون ورقه بصفيحة من الذهب تشبه المسطرة.
لقد أفاضت المصادر في وصف ما زينت به كسوة هذا المصحف بعد انتقاله إلى المغرب، يذكر عبد الواحد المراكشي أنه في عهد الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف أرسل ملك صقلية إتاوة مالية للموحدين وفي ذخائر لم يكن عند ملك مثلها، منها حجر ياقوت لا يقدر بمال، كان يسمى الحافر الأحمر، على شكل حافر الفرس.
كللوا به غلاف المصحف العثماني إلى جانب أحجار كريمة نفيسة أخرى.
وصنع للمصحف كسوتان واحدة من السندس الأخضر يخرج بها للناس عامة، وأخرى عظيمة قيمة يخرج بها لخاصة الناس.
كما صنع الموحدون محملاً خشبيًّا مرصعًا ومنقوشًا ومغلفًا بصفائح ذهبية، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله، رصع بدوره بأجمل اليواقيت وأحلى الدرر.
ثم جعلوا لكل هذا تابوتاً كبيرًا مكعب الشكل به مشكاة، وقد ركب الصناع في أحد جوانبه بابًا عليه دفتان، وتفنن الصناع في طريقة فتح بابه وغلقه بحركات هندسية فنية، فقد كان له مفتاح يترتب عليه أربع حركات، أولها انفتاح الباب بانعطاف الدفتين، ثم خروج الكرسي من تلقاء نفسه، ثم يتحرك المحمل في ذات الوقت من مؤخر الكرسي إلى مقدمه، فإذا تم خروج الكرسي والمحمل انغلق الباب من تلقاء نفسه.
قتل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- وهو يقرأ القرآن، وصبغت دماؤه صفحات ومداد القرآن العظيم، وانتشر الإسلام في أرجاء الأرض ووصلت المصاحف التي أمر بها إلى الأمصار.
وسارع المسلمون إلى نسخ المصاحف منها، حرفًا بحرف، وكلمة بكلمة، واشتهر أئمة بالقراءة والكتابة، ولاقى القرآن عناية ما عرفت البشرية كلها بكتاب مثيلاً.
وتمر الأيام، ويدخل في الدين الجديد آلاف وآلاف من غير العرب أبناء البلاد المفتوحة، أولئك الذين لا يحسنون التكلم بالعربية، وهم يتشوقون لقراءة القرآن الكريم وفهم معانيه واتباع تعاليمه.
فكان أن تسرب اللحن وفشا الغلط، وكان لابد من وضع ضوابط لشكل القرآن العظيم ولنقطه، حتى لا يخطئ فيه من كان أعجمي اللسان.
* حكاية النقط .. الإعراب .. التشكيل
وكانت حكاية بداية نشوء النقط الذي نعني اليوم التشكيل للحرف العربي، وهو إعراب اللفظ كي لا يتسرب اللحن أي الغلط إلى اللسان ويتغير المعنى ويفهم منه غير المقصود فيختلط الأمر.
لقد سمع ظالم بن عمرو بن سفيان الشهير بأبي الأسود الدؤلي حوالى سنة ثمان وثلاثين للهجرة قارئا يقرأ قوله تعالى: "أن الله بريء من الله ورسوله" بجر لام رسوله بدل الرفع، وهذا كفر من غير شك.
فقال أبو الأسود: معاذ الله أن يتبرأ من رسوله وأفزعه ذلك، وشعر بخطورة الأمر، فلجأ لسيدنا علي وشرح له ما يجول في فكره، فباركه وقال له: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت.
وكان بدء علم النحو، وبدء الإعراب، وبدء النقط، وبدء التشكيل.
الصورة الأولى للتشكيل: النقط
لم تكن صورة التشكيل فوق الحروف كصورة التشكيل التي عليها حروف عليها العربية اليوم، وإنما كانت كما وضعها أبو الأسود الدؤلي المتوفى سنة تسع وستين للهجرة، حين اختار رجلاً من عبد القيس وقال له:
خذ المصحف وصابغا يخالف لونه مداد المصحف، فإذا فتحت شفتي فأنقط نقطة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فأنقط أمامه نقطة، وإذا كسرتهما فأنقط تحته نقطة، فإذا اتبعته غنة أو تنوينا فأنقط نقطتين. حتى أتى على آخر المصحف.
فالتشكيل الأول كما نرى هو عبارة عن رسم دائرة نقطة بمداد حبر أحمر حتى لا تختلط بجسم الحرف، فوق الحرف لتدل على الفتحة، وتحت الحرف للخفضة أي الكسرة، وفي وسط الحرف أو بين يديه للضمة، واستخدم النقطتين لتدل على التنوين.
?إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ? [الأعراف: 206].
¥