من حساب الجُمل هذا، لقد استعمل العرب والمسلمون نظام حساب الجمل في البدء في عد آيات القرآن الكريم زمن الحجاج وكان التخميس والتعشير، إلا أن اتصالهم بالحضارات القديمة دفعهم إلى اكتشاف نظام جديد حين وجدوا أن الهنود قد تخلصوا من الحروف ووضعوا لكل رقم شكلاً يدل عليه.
وقد كان الفلكي محمد الفزاري الكوفي المتوفى سنة ثمانين ومائة هجرية وقد وضع كتاب السند هند الكبير، شرح فيه فكرة الأعداد الهندية ورسم أشكالها، وكان هذا الكتاب فاتحة فتحت الطريق لعالم الرياضيات محمد الخوارزمي المتوفى سنة اثنين وثلاثين ومائتين هجرية حيث أعاد كتابة هذا الكتاب، وأضاف إليه الشيء الكثير.
إن الأرقام التي استعملها العرب والتي نكتب بها اليوم لم تكن الهندية صورة كما يخطئ بعد المثقفين ويدعونها بالأرقام الهندية، إن شكل الرقم العربي مختلف عن الهندي صورة، وما أخذه العرب عن الهنود هو فكرة النظام العشري، يقول الأستاذ قدري حافظ طوقان: " كان للهنود أشكال عديدة للأرقام هذب العرب بعضها، وكونوا من ذلك سلسلتين عرفت إحداهما بالأرقام الهندية، وهي التي تستعملها أكثر الأقطار العربية والإسلامية، وعرفت الثانية باسم الأرقام الغبارية، وانتشر استعمالها في بلاد المغرب والأندلس، وعن طريق الأندلس وبواسطة المعاملات التجارية، دخلت هذه الأرقام البلاد الأوروبية، وعُرفت باسم الأرقام العربية، إن صور الأرقام الهندية تختلف اختلافاً كبيراً عن أشكال الأرقام العربية، كما أن منشأ الأرقام العربية والتي تدعى بالغبارية لا علاقة للهنود بها، وإنما هي صورة الأحرف العربية، وليس صحيحاً أنها قامت على تعداد الزوايا، وقد جمعها بعضهم في هذه الأبيات.
ألف وحاء ثم حج بعده ** عين وبعد العين عُوٌّ تُرسم
هاء وبعد الهاء شكل ظاهر ** يبدو كمخطاف إذا هو يُرقم
صفران ثامنها وقد ضما معاً ** والواو تاسعها بذلك تَختم
لقد ذكر الخوارزمي نوعين بشكل الأرقام، ظل الأول مستعملاً واختفى الثاني بعد أن تحول إلى أصل الأرقام المستعملة في العالم اليوم مع تغيير بسيط، وشكل الأرقام اليوم لا يمت بصلة إلى شكل الرقم الغباري، إن الأرقام المشرقية هي الأصل، وهي التي شاعت قديماً وحديثاً، واستُعملت في المخطوطات العامة وفي مخطوطات الحساب، وإلى عهد قريب كان الجزائريون يزينون مخطوطاتهم بها، وأقدم مخطوطة ظهر فيها شكل الرقم الغباري هو مخطوط ابن الياسمين الذي مات ذبيحاً بمراكش عام واحد وستمائة هجرية، ويوضح هيئة الأرقام كما تستعمل اليوم عدا شكل الأربعة والخمسة فهما تشذان عن ذلك، ومن المؤسف أن يظهر هذا الرقم المغترب في المصاحف ظناً بأنه الرقم العربي الأصيل.
ظلت أشكال الأرقام المشرقية سائدة في جميع بلاد المشرق العربي والإسلامي، وتطورت مع تطور الحرف العربي، وسارت ليونة الحرف حتى أصبحت جزءاً من التراث، لعب الفن والذوق الرفيع عند الفنان المسلم دوراً كبيراً، فأحدث أشكالاً جميلة مذهلة لصنع هذه الرموز استمدها من الطبيعة الورافة الغناء، وكانت الأزهار أحد مصادر إلهامه ليستقي منها آلاف الأشكال بشكل مجرد، وهكذا نشأ الفن الإسلامي التجذيبي لخدمة القرآن العظيم، وكانت آياته في التأمل في خلق الله الباعث الحثيث على صياغة جمالية هذا الفن المذهل.
لقد أسهم الخطاطون في تجويد المصاحف وتحسين كتابتها، وحملوا لواء تطور الحرف العربي، فقد ظهر الخطاط قطبة المحرر فابتدع أقلام الجليل والطومار والثلث والنصف في العصر الأموي، وكان من قبل مؤسسُ الدولة سيدنا معاوية -رضي الله عنه- خطاطاً وكاتباً للوحي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ظهر الخطاط خالد بن أبي الهياج أيام الوليد بن عبدالملك، وكان يخط المصاحف بالذهب، وهو الذي كتب محراب المسجد النبوي بالمدينة.
وأصبحت دمشق حتى منتصف القرن الهجري الثاني قبلة الخطاطين والمُذَهبين والمبدعين، لقد وصلنا من الفترة الأموية عدة مصاحف ففي متحف طوبقابي بإسطنبول مصحف كُتب عليه أنه كُتب سنة اثنتين وخمسين هجرية بخط عقبة بن عامر، إلا أن كتابة الاسم والتاريخ مضافة فيما بعد، والخط أندلسي مشكول على طريقة الخليل، ضمة وفتحة وشدة بالأزرق، والنقاط بالأحمر، وفي نهاية الآيات علامات مزخرفة، وفيه تقسيمات للأرباع والأخماس والأجزاء، ودوائر هندسية زخرفية، ولا نشك في أن المصحف متأخر جداً عن التاريخ الذي زُعم أنه كتب فيه.
ومصحف آخر في طوبقابي بإسطنبول كتبه حُدَيج بن معاوية بن مسلمة الأنصاري للأمير عقبة بن نافع الفهري سنة تسع وأربعين من الهجرة، والشكل فيه بالأحمر، فيه نقاط، وجعل حوله ورقاته إطاراً من الذهب، وخطه أقرب إلى النسخ المدور منه إلى الكوفي، وفي خطه خصائص لا توجد في أي من المصاحف التي نُسبت للقرن الهجري الأول، وفي المتاحف اليوم مصاف تنتسب لآل البيت -رضي الله عنهم- إذ تحتفظ مكتبة الإمام الرضا في مشهد بإيران بثلاثة مصاحف تنسب إلى الأئمة، الأول منسوب للحسن -رضي الله عنه- وهو ناقص يبدأ من قوله تعالى:
? .. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ? [سورة يس، الآية 27]
وآخره:
? .. وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ? [سورة فصلت، الآية 45]
وكُتب فيه: كتبه حسن بن علي بن أبي طالب في سنة إحدى وأربعين، ويحمل أربعاً وعشرين ومائة ورقة.
ومصحف آخر منسوب للحسين -رضي الله عنه- وفيه حركات الإعراب، ويحمل واحدة وأربعين ورقة، وأوله:
? ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ? [سورة الكهف، الآية 82].
من سورة الكهف، وصفحته من سبعة أسطر، لكن ليس لدينا ما يؤكد أن هذين المصحفين يعودان بالفعل للحسن والحسين رضي الله عنهما.
¥