ظل استعمال الخط اليابس الكوفي في المصاحف المغربية حتى القرن السادس الهجري، ونلحظ في تلك المصاحف تطوراً واضحاً في ليونة بعض الحروف وفي الشكل، وبعض الخواص التي تتسم وتنطبع بطابع المغاربة بخلاف المشرق كجرة الوصل، وتوجد في المكتبة الوطنية بتونس أوراق من مصاحف عثر عليها في مسجد القيروان ومنه هذا النموذج وهو مكتوب على الرق، وآياته من آخر سورة طه وتبتدئ: ? وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ? [سورة طه، الآية 135].
ونلاحظ الشكل المثلث للنقط وتدل على انتهاء الآيات وهي فواصل بينها، وكتب رأس السورة بالذهب، ولكن بخط المصاحب الأولى وجاء فيها فاتحة السورة التي يذكر فيها الأنبياء: ? اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ? [سورة الأنبياء، الآية 1 – 2].
ونرى بوضوح في هذه الكتابة رسم عراقات النون والياء وأشباههما بأشكال دائرية ومع ذلك فإن الخطاط لم ينس أصلهم الجاف، فاستعملهما لضيق المكان في آخر السطر، كما استعمل الشكل الذي استحدثه أبو الأسود الدؤلي، فالنقطة الحمراء فوق الحرف للفتح، وتحته للخفض والمتراكبتان للضم والنقطة الخضراء للهمز، وليس في المصحف نقط نصر بن عاصم على الحروف المتشابهة ومما تبقى من أوراق المصحف الذي كتبه وجلده علي بن أحمد الوراق لفاطمة الحاضنة ما نصه:
? ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ ? [سورة البقرة الآية 74].
وأثر الجودة واضح في تنوع منبسطات الألفات الموزونة الطول ودقة الفراغ بين الصواعد والنوازل وسائر الحروف وامتاز أيضاً برسم رؤوس الواو والميم والهاء بشكل مثلث واتبع طريقة الخليل في رسم الفتحة والضمة والكسرة والشدة، ورسم الهمزة رأس عين صغيرة وللصلة جرة، وهو ما امتازت به المصاحف المغربية دون سواها.
والعناية الشديدة واضحة في كتابة هذا المصحف الثمين والسبب في ذلك أنه مكتوب لحاضنة أمير كان ثالث أمراء زيري الذين خلفهم الفاطميون على تونس بعد انتقالهم إلى مصر، وقد أشرفت على متابعته الكاتبة درة وتم وقفه على الجامع الأعظم بالقيروان في شهر رمضان على يد قاضي القضاة عبدالرحمن بن هاشم.
ونلاحظ صفحة أخرى من هذا المصحف، الذي بلغ قمة الجمال فنقرأ: ? شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ ? [سورة آل عمران، الآية 17، 18].
ومن الكنوز الأثرية بجامع القيروان صندوق خشبي كبير كان يحفظ به هذا المصحف وعليه كتابة كوفية جميلة تحمل اسم الحاضنة الجليلة وتاريخ الوقف المسجل على المصحف نفسه.
* الأندلس ..
لقد كان للمسلمين في الأندلس دور كبير في تطوير الحرف العربي المغربي الذي كتبت به المصاحف وإن كانت القيروان أسبق في الظهور بعد إن اختط عقبة بن نافع القيروان سنة خمسين للهجرة والتي توافق سنة سبعين وستمائة للميلاد، وجعلها قاعدة متقدمة للمسلمين يرابطون فيها للغزو والحرب ويقيمون فيها في السلم، قاد جيش الإسلام من المسلمين حتى وصل الأطلسي.
وخاض خلال ذلك مجموعة من العمليات واصطدم مع قوات البربر والروم وتوفي في تهوذا ودخل العرب شبه جزيرة إيبيريا فاتحين سنة اثنتين وتسعين هجرية زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك تحت إمرة طارق بن زياد ثم موسى بن نصير.
ولما انتهوا بالفتح إلى برشلونة عاد موسى ومعه طارق إلى المغرب ومنها للمشرق بعد أن ولى عليها ابنه عبد العزيز بن موسى بن نصير.
¥