ـ[محمد بن جماعة]ــــــــ[13 Aug 2007, 05:55 م]ـ
رحلة القرآن العظيم (6)
منذ أن جمع القرآن العظيم في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكتبت صحائفه بمقاس واحد على الرق، رأينا كيف أن أبا بكر أراد أن يلتمس له اسماً، فقال بعض الصحابة: نسميه السفر، وقال آخرون: غير ذلك، إلا أن معقل بن سالم مولى حزيفة بن اليمان وهو من بلاد الأحباش أطلق على كتاب الله عز وجل اسم المصحف.
وقال للصحابة رضوان الله عليهم إننا نطلق في بلادنا على مجموعة الصحف والصحائف المجموعة بين دفتين اسم المصحف، وراقت الفكرة للخليفة أبي بكر وللصحابة فسموا كتاب الله -عز وجل- بالمصحف الشريف.
وقد وردت كلمة صحف وصحائف في القرآن العظيم ثمان مرات في سور: طه، والنجم، وعبس، والتكوير، والأعلى، والمدثر، والبينة التي يقول فيها الله عز وجل:
? رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ? [سورة البينة، الآية 2].
لقد ربط زيد بن ثابت مجموعة الصحف المكتوبة على الرق بخيط ثم أودعها بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان هذا بدء صناعة التجليد التي ستزدهر ازدهاراً كبيراً في رحاب المصحف الشريف.
ولما جمع المصحف الجمع الثاني بأمر من الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وكتبت النسخ الأربعة التي أرسلت للأمصار كما قال الداني، أكثر العلماء على أن عثمان بن عفان لما كتب المصحف جعله على أربعة نسخ وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهم، فوجه إلى الكوفة إحداهن وإلى البصرة أخرى وإلى الشام الثالثة وأمسك عنده واحدة.
كان لا بد من وضعها في حافظ يحفظها من الضياع حتى لا تختلط السور والآيات ببعضها إذ لم يكن وضع الأعداد على الصفحات أو أسلوب التعقيب قد استخدم.
اهتدى المسلمون إلى ربط الرقوق ببعضها بخيوط متينة ووضعوا لها غلاف من الخشب أول المصحف وآخره فأصبح مجموعاً بين دفتين من خشب وغلفوا الخشب بالحرير، وكان المسلمون قد تعلموا هذه الطريقة من الأحباش والأقباط اللذين كانوا السباقين والأوائل في استعمال الجلد والكتان والحرير في تجليد الكتب، ثم انتشرت أساليب هذه الصناعة بين المسلمين وارتقت وتطورت في ظلال المصحف الشريف وانتقلت إلى سائر بلاد ما وراء النهر حتى حدود الصين وإفريقية وبلاد الاندلس.
لقد كان الجمع الأول للمصحف زمن أبي بكر والجمع الثاني زمن عثمان رضي الله عنهما، والفرق بين الجمعين أن الجمع الأول البكري كان جمع آيات الله في مصحف واحد مخافة تفرقها وذهابها بذهاب حفظتها، أما الجمع الثاني العثماني فهو جمع الناس على قراءة واحدة وحرف واحد والاختلاف في القراءة والذهاب بها مذاهب شتَّى يوشك أن يصل إلى صميم الآيات نفسها، وكان ذلك من أكبر مناقب الخلفاء؛ ارتضاه الصحابة وتقبله عامة المسلمين.
وانتصف القرن الهجري الثاني، ولم يكن للعرب والمسلمين كتاب يمكن أن يجلد غير المصحف الشريف، لقد كان أغلفة المصاحف أول الأمر تصنع من خشب وتغلف بالقماش والحرير خالية من أية مسحة فنية أو زخرف.
كما استعملت أوراق البردي القديمة التي استنفذت أغراضها في الكتابة بلصق بعضها إلى بعض بحيث تصبح سميكة أشبه بالورق المقوى وتقطع إلى ألواح وتستخدم في التجليد بعد تغليفها بالقماش.
إلا أن الخطاط المسلم الذي حمل أمانة نسخ المصحف الشريف جعله يبحث أن أثمن ما يملك لظهر المصحف بالمظهر النفيس احتراماً وإجلالاً فامتدت يده إلى مساحة لوح الخشب أو البردي يطعمه بالعاج والعظم ثم بالأحجار الكريمة في خيال هندسي مبهر.
ولم يلبث أن كفته بالذهب والفضة، لقد ولدت صناعة التجليد العربية في أحضان المصحف الشريف ويذكر ابن النديم أسماء لسبعة من المجلدين المشهورين وعلى رأسهم ابن أبي الحريش الذي كان يجلد في خزانة الحكمة للمأمون، وكان المقدسي صاحب كتاب أحسن التقاسيم مجلداً ماهراً فقد أرسل له الخليفة الأمين مصحفاً شريفاً ليجلده ودفع إليه بدينارين.
ويحدثنا أنه حين رحل إلى اليمن في القرن الرابع وجد الناس هناك يلزقون المصاحف ويبطنونها بالنشا، أما هو فكان قد تعلم الصنعة على يد أهل الشام الذين كانوا يستعملون الأشراس بدلاً النشا.
¥