والذين كانت صنعتهم أدق وأرقى، كما تفنن أهل الشام في تجليد المصحف واخترعوا صنع اللسان وهو امتداد في الجلدة اليسرى، وهكذا وجدت صناعة التجليد في أفياء المصحف الشريف نمواً وازدهاراً، فازدهرت بلاد الشام ومصر واليمن بالجلود، وامتازت دمشق وزبيد وصعدة بالأدم وعدن بجلود النمور، وإذا كان الزمن لم يبقي لنا من تجليدات القرون الأولى شيئاً ذا بال، فإنه قد من علينا ببعض النماذج التي تدل على مدى تطور فن التجليد في المصاحف، وهكذا لم يبلغ القرن الرابع الهجري مداه حتى كان تجليد المصاحف قد بلغ مبلغاً كبيراً من الجمال فازدان بألوان من الزخرفة لا تقل عن الزخارف الداخلية روعة وجمالاً.
لقد اتبع مجلدو المصاحف في عملهم أسساً تدل على عمق وفهم.
فقسموا سطح الغلاف إلى متن وحاشية، والمتن هو الصرة الكبيرة المتمركزة فيه وتملأ عادة بالزخارف الهندسية النجمية الشكل وبالزخارف النباتية وقوامها الفروع المتشابكة.
والحاشية شريط زخرفي يسير بموازاة الخط الرئيسي للغلاف، وهذا التقسيم في الغلاف ما هو إلا استمرار للتقسيم القديم الذي كان شائعاً في زخرفة غلافات المصاحف، وتحتل زوايا المتن من الداخل زخرفة مستمدة من زخرفة الصرة الوسطى.
ظهرت شرائح الجلد محل صفائح الذهب والفضة ولتستعمل في كسوة الألواح المصنوعة من البردي في القرن الثالث الهجري ومن أجمل النماذج القديمة لهذه الغلافات غلاف معروض في متحف المتروبوليتان بمدينة نيويورك، تتمثل فيه طريقة التغليف القديمة بالخشب وتحليته بالأحجار الكريمة كما يحتفظ معرض الفنون الإسلامية في مدينة بيرلين بألمانيا بغلاف مصحف من خشب الأرز مطعم بالصدف على هيئة نجوم متراكبة متداخلة.
ويحتفظ متحف الفنون الإسلامية بالقاهرة بعدد من المصاحف المجلدة بغلافات من الخشب المزين برسومات بسيطة.
تطور فن التجليد وازدهر في المناطق الشرقية من بلاد فارس وكانت تيمور لانك الذي اجتاح المنطقة ووصل إلى دمشق سنة ثلاث وثمانمائة هجرية قد أخذ معه مجموعة من خيرة الصناع والمجلدين الدمشقيين فعلموا الإيرانيين هذه الحرفة.
وظهرت مجلدات فاخرة منها مصحف شريف لفرخشاه سنة تسع وثلاثين وثمانمائة هجرية، وكان صانعه قد قضى فيه عامين كاملين حتى انتهى من زخرفته وخلال حكم المغول تم تكفيت الغلاف وصنعت له القوالب المعدنية حتى غدت الزخرفة نافرة على الجلد.
وكانت مدرسة مدينة هارات أيام باي سنقر قد اشتهرت بنقاوة الألوان وتناسق التركيبات الهندسية وفي متحف دوسندورف بألمانيا مجموعة من الأغلفة الجميلة تعود إلى هذه الحقبة والفترة.
* فن اللاكيه
أدخل المسلمون في مرة في بلاد ما وراء النهر لأول مرة استعمال مادة الك، واللك مادة مشتقة من الصمغ تطلى بها الزخارف والرسومات الملونة المرسومة بعناية ودقة حتى تعطي لمعاناً وبريقاً بعد أن تجف وهذه المادة تستحضر من الصين وكلمة اللك صينية.
ومن أجمل النماذج وأترفها غلاف مورد مزهر يعود لسنة إحدى وستين وتسعمائة يحتفظ به المتحف الوطني بدمشق، كما أن أغلفة المصاحف التي تحتفظ بها مكتبة رئاسة الجمهورية في طهران تعد من أجمل وأقدم الأغلفة بحيث تعود إلى القرن الرابع الهجري وتمثل قمة الإبداع والفن في غلاف المصحف الشريف، وتحتظ خزائن المخطوطات في جامعة طهران أغلفة مصاحف نادرة موشاة بالألوان النباتية ومطلية بمادة اللك، وتعود إلى قرون مخلتفة من القرن الرابع الهجري وحتى القرن الحادي عشر، إن تأثير مدرسة هارات واضح المعالم في عمل الأتراك العثمانيين اللذين تتلمذوا على أيدي الفرس واقتبسوا منهم جل رسوماتهم وطرق التجليد التي برعوا بها فيما بعد.
وكانت ظروف الحياة قد اضطرت بعض الفنان المجلدين المهرة إلى الرحيل من بلادهم فاستوطنوا في تركيا وجهدوا في إخراج المصحف بهذه الحلة البهية، أما أغلفة المصاحف التي صنعت للخلفاء والطبقة العليا من وجهاء القوم فقد دخلت فيها رقائق الذهب والفضة وصيغت صياغة تقنية عالية وطعمت بالأحجار الكريمة كما نشاهد في هذا النموذج الذي يحتفظ به متحف الأمانات المقدسة والذي يعود للسلطان سليمان القانوني.
¥