استعمل الخطاط الذهب لكتابة المصحف كما استعمل الفضة، وحظي المصحف باهتمام وإبداع لا نظير له في أي فن من فنون الكتاب ونلاحظ في الصحفات الأولى والأخيرة من المصحف الشريف أسلوب التعقيد والإعجاز في الفكرة التي توحي التوازن الانسجام ويحتفظ المصحف الوطني في دمشق بمجموعة من المصاحف المذهبة تتوزع فيما بين العصر المملوكي والعثماني، وهي ذات قيمة كبيرة تنبيء عن مدى تطور فن التذهيب وقدرة الفنان على رسوخ فكره في الإبداع والتميز والصفاء.
ما إن بزغت شمس القرن الرابع الهجري حتى بدأ الخط الكوفي اليابس الرصين في أفول وأضاء قمر جديد صفحات وأوراق المصحف الشريف، وكنا قد لاحظنا من خلال النماذج التي وصلتنا وعرضناها من قبل رصانة خط الكوفة المتزن البديع وجلاله في رسوم حروف القرآن العظيم إلا أن امتداد الدولة الإسلامية الواسعة واستخدام الخطوط الواسعة في كتابة الدواوين وبخاصة في العصر الأموي ومن ثم العصر العباسي جعلته أكثر استحساناً وأبهى منظراً من أخيه بعد أن نضج واستقام عوده.
وأقدمت على استخدامه الشعوب التي أقدمت على الإسلام في أقاصي الأرض وأكسبته هوية ومنحته الجنسية الإسلامية.
إن ما حدث من تطورات واصطلاحات طرأت على الرسم المصحفي أيام الدولة الأموية كان السبب في ارتفاع الذوق والحس إلى ذروة الجمال، وكان ظهور قطبة المحرر المتوفى سنة أربعة وخمسين بعد المئة تحولاً كبيراً في تاريخ كتابة المصحف بعد أن طور واستولد من الخطوط اللينة خطوط جديدة كان لها الشأن الكبير والعظيم فيما بعد.
واستمرت سنة التطور فجاء في أواخر الدولة الأموية الضحاك بن عجلان الكاتب، وإسحاق بن حماد ليضيفا إلى الخط اللين بعض الهندسة في الحروف وليتبوأ الخط اللين في دمشق عرش الحضارة وينشر ظلاله على أقطار العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه.
يقول بن النديم: "لم يزل الناس يكتبون على مثال الخطوط القديمة إلى أول الدولة العباسية، فحين ظهر الهاشميون أختصت المصاحف بهذه الخطوط".
كما يذكر صاحب الفهرست من خطوط المصاحف الأولى المكي والمدني بأنواعه التئن والمثلث والمدور والكوفي والبصري والمشق والتجاويد والسلواطي والمصنوع والمائل والراصف والأصفهاني والجلي والقيرموز كما أسلفنا الذكر في الحلقات الأولى من هذا البرنامج.
لقد ظل الناس يكتبون المصاحف بالخط القديم حتى أول الدولة العباسية وعندئذ اخترعت الأقلام، وعرفت من خطوط المصاحف هذه الأنواع التي يذكرها ابن النديم، ولقد خط مصحف عثمان رضي الله عنه بالخط المكي، وكان مصحف ابن مسعود وأبي موسى بن قيس بالخط الكوفي، وأولهما كان بالكوفة قاضياً وأميناً لبيت المال وثانيهما كان حاكماً للبصرة ثم للكوفة بعد عام سبعة عشر هجرية.
وتمر الأيام وينتقل ثقل الدولة إلى بغداد ويتحول الخط على يد الوزير أبا علي محمد بن علي بن الحسين بن مقلة إلى قوة في الأداء ورصانة في الحروف؛ فيضع له النسب والقواعد متخذاً النقطة مبدأ له كنقط المصاحف، ويخطو نحو كتابة المصحف الشريف خطوة جريئة مخلفاً وراءه خط الكوفة، مشرعاً ذلك الخط اللين المنسوب الذي سيتخذ سبيله إلى كلمات القرآن الكريم يحنو على شكل ورسوم الخليل يزين بها حروفه، مبتدعاً أشكالاً ورموزاً جديدة تحكي قصة ذلك العناء الطويل.
لقد كتب الوزير محمد بن مقلة المصحف العظيم مرتين لكن التاريخ لم يكشف لنا بعد عنهما ولا نعرف شيئاً عن مصيرهما، وقد وزر بن مقلة لثلاثة خلفاء عباسيين أولهم المقتدر اللذي تولى الخلافة ببغداد سنة خمسة وتسعين ومائتين هجرية ثم وزر للخيفة الثاهرة الذي نصب سنة عشرين وثلاثمائة هجرية ورغم أن عهده قد شهد نبوغ كثير من العلماء الأشداء إلا أن الفتن قد ظهرت في ذلك العهد وقد تجرأ الولاة على خلفائهم وكان بن مقلة ممن سعوا لخلع هذا الخليفة.
ثم وزر بن مقلة آخر الأمر للراضي الذي تولى الخلافة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ولكنه صرف عن الوزارة لما أثار عليه الجند.
¥