لم يمض قرن من الزمان على قيام الدولة العباسية حتى تردت الأحوال وغدت لا تسر نتيجة التفكك والانحلال ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها والحكم فيها لابن رائق، وخوزستان في يدي البريدي وفارس في يدي عماد الدولة بن بويه الموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يدي بني حمدان، ومصر والشام في يد محمد بن طغش الأخشيد، والمغرب وإفريقية عبد الرحمن الملقب بالناصر الأموي، وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد الثماني وطبرستان و جرجان في يد الديلم، والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القرمطي، ورغم هذه التقسيمات فقد كانت المنافسة في الفن والعلم شديدة بين هذه البلاد وكان كل حاكم يود أن يصنع في العلم شيئاً يبقي ذكره بعده.
والخط المصحفي في تطور وتقدم ينحو في كل بلد نحو التهذيب والتشذيب، وبصناعة الورق واختفاء الرقوق تحول خط المصحف العظيم رويداً رويداً إلى الليونة مخلفاً وراءه خط الكوفة اللذي بقي أربعمائة سنة في عيون القراء، لقد أصبح صلاح الدين الأيوبي بعد وفاة العاضد أخر الخلفاء الفاطميين صاحب النفوذ المطلق في مصر منذ سنة أربع وستين وخمسمائة هجرية، وقد شاع في عصره الخط اللين وحل محل الخط الكوفي اليابس وغدت دمشق في عصره منارة للخط اللين بالرغم من وجود بعض المصاحف التي تعود لزمنه وقد كتبت بخط يابس ثقيل جميل.
وكانت المدارس قد انتشرت في عهده في الشريط المتد على جبل قاسيون بعد أن أنشئت الصالحية وغدت فيها المدرسة العمرية جامعة للقرآن العظيم يأمها طلبة العلم والحفاظ من كل أنحاء العالم.
وكان السلاجقة الترك يشجعون الفن وكتابة القرآن العظيم وأصحبت الكتابات القرآنية تتحلى بالرشاقة والجمال في عهدهم وتخط على أرضية زخرفية مع رؤوس السور والفواصل، وفي القرن السادس الهجري بدأ ظهور المغول بظهور الفاتح جنكيز خان من الجهات الشمالية من بلاد الصين.
وغزوا بخارى وسمرقند التي كان يحكمها خوارزم شاه علاء الدين وعاثوا فيها فساداً وأحرقوا بها المصاحف وهدموا المساجد والمدارس، وفي سنة ست وخمسين وستمائة هجرية استولى هولاكو حفيد جنكيز خان على بغداد، وقتل المغول آخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله وهدموا المساجد وأتلفوا المصاحف الرائعة الجميلة وقضوا على أجمل ما في الحضارة العربية.
أقام هولاكو في إيران مالكة خاصة به أصبح هو خانها دامت قرناً من الزمان، وقد احتفظت بغداد رغم ذلك بتفوقها في فن كتابة القرآن العظيم حتى أواخر القرن الثامن الهجري وسوف تتحفنا هذه الفترة بمصحفين خطهما ياخوت المستعصمي.
ثم انتقلت بعد ذلك زعامة كتابة المصاحف إلى تبريز وهارات وسمرقند وزادت الزخارف ثراء وجمالاً، وكان السمرقند عاصمة تيمور لانك بعد أن استقدم إليها الفنانين من جميع ولاياته وبث فيها روحاً جديداً وكان أن ازدهرت ظهر فيها عباقرة أمثال البهزاد من هارات.
ونهض في هذا الزمن فن التجليد نهضة رائعة وانتقل فن الرسم التصغيري من الصين لإيران مع الحفاظ على المواضيع الإسلامية وأسس باي سنقر أحد الأمراء التيموريين أكاديمية خاصة بفن الكتاب وشاع الخط التعليقي الذي ابتكره مير علي ويحتفظ المتحف الإسلامي باسنطبول بمصحف من هذه الفترة وقد خطته حفيدة تيمور لانك وكتبت أسماء السور فيه بالذهب المسور بالحبر وخطه ثلث جميل وقد كتب في آخره "تشربت بكتابة هذا المصحف المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل حكيم حميد الأمة المذنبة المعترفة بفنون التقصير السائلة من الله الكريم المنان شاذ ملك بنت محمد سلطان جهانكير ابن أمير تيمور كوركان" أصلح الله شأنها وصانها عما شانها ورحم أسلافها.
وكان ذلك في شهور سنة إحدى وسبعين وثمانمائة الهجرية، ونقرأ في هذا المصحف من سورة النور ..
? سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ? [سورة النور، الآية 1].
¥