تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[محمد بن جماعة]ــــــــ[13 Aug 2007, 06:09 م]ـ

رحلة القرآن العظيم (8)

بعد استخدام الخطوط اللينة وتطورها المذهل في كتابة الرسائل والكتب والمدونات منذ عصر بني أمية، ومع بداية ظهور ملامح خط النسخ الشامي الجميل، وهجران خط الكوفة الرصين والتحول عنه في تسطير جملة الشئون الجليلة والعظيمة إلى الليونة بدأ الإبداع والابتكار والتطور يلد في أحضان القرآن العظيم على يد جملة من العباقرة اللذين تركوا آثارهم وخلفوا تراثاً ينبئ عن العناية الفائقة تجاه المصحف الشريف.

ففي القرن الثالث والرابع كان ظهور ابن مقلة وابن البواب حدثاً هاماً في تحول كتابة المصاحف نحو الليونة، واكتمال الرسم والشكل الذي وضعه الخليل بن أحمد واستخدمه الخطاطون في ضبطهم وتشكيلهم للقرآن العظيم.

كان الأثر الذي جاءنا من تلك الفترة هو مصحف ابن البواب الذي سبق وتحدثنا عنه في فترة ماضية، ويتحفنا القرن السادس الهجري لمصحف لياقوت المستعصمي فنرى فيه التطور المذهل لخط الثلث المحقق الذي أصبح النموذج الأعلى من الخطوط اللينة، والتي خطت به آيات القرآن العظيم وأصبح النموذج الذي يحتذى به في كتابة القرآن وشكله، إن جمال الدين ياقوت بن عبد الله المستعصمي صاحب الدور الكبير في تحويل الخط إلى فن رفيع، وهو مولى الخليفة العباسي المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس، والذي قتله هولاكو خان عند استيلاءه على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة هجرية.

ونجا حينها ياقوت من القتل، واتصل بآل الجويني اللذين حكموا العراق فيما بعد وتقرب منهم، وعاش عيشة سعيدة وعين خازناً في دار الكتب المستنصرية ببغداد، واستطاع أن يستعيد منزلته القديمة، بعد الغزو المغولي، وكانت الأقلام الستة الثلث، والنسخ، والمحقق، والريحان، والتواقيع، والرقاع قد بلغت حداً من التطور قبله فتورا وحسنها، ووصل بها إلى ذروة الجمال، واتخذ الخط المائل للقلم بدلاً الخط المستوي فأضفى بذلك على خطه جمالاً وجلالاً، وبلغ بهذه الأنواع حداً كبيراً من الجودة، وألف بعض الكتب، وقرض الشعر وخلف أعمال خطية كثيرة في خزائن الكتب، على رأسها مجموعة من المصاحب، وأصبح رائد المدرسة البغدادية بعد ابن البواب في خطوط المصاحف وغيرها.

وقد وصلنا من خط ياقوت الجميل مصحف كتب بالخط الريحاني ويظهر فيه أسلوب ياقوت في الكتابة، وهو محفوظ في متحف " توب قابي سراي " في أسطنبول ويحتوي على سبع وأربعين ومائتي ورقة وبطول ثماني وعشرين ونصف وبعرض واحد وعشرين ونصف سنتيمتر.

ونشاهد فيه سورة الفاتحة وبداية البقرة، وفي الصفحة أربعة عشر سطراً وصفحاته مجدولة، وفي هوامشه طرر للأعشار والأخماس على شكل إجاصة أو دائرة تحمل في داخلها خطاً كوفياً، وأما أسماء السور فقد كتبت في مستطيلات مبسطة الزخارف بخطي ثلثي مرسوم، وخص للبسملة سطراً كاملاً مد فيها بين السين والميم، كما رسم فواصل الآيات دوائر على شكل زهرة وضعت فوق السطر لضيق الحيز المخصص لها، وورد في آخر المصحف بعد سورة الناس مستطيل مزخرف كتب عليه بخط الثلث:

(صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم، ثم وكتب ياقوت المستعصمي في سنة خمس وثمنين وستمائة بمدينة السلام بغداد حامداً لله تعالى على نعمه، ومصلياً على محمد صلى الله عليه وسلم وآله الطيبين الطاهرين، ومسلماً، ومن ذنوبه مستغفراً).

لقد امتاز ياقوت بالاعتدال الفاصل بين السطور، وفي اتزان الكلمات والحروف، فهي غير منفرجة حتى التفكك ولا مزدحمة متضاربة العراقات، وجاءت الصواعد فيه مائلة إلى اليسار وهو ما تقضي به القواعد الخطية، أما أفقياته فلم يبالغ بانحدارها كما فعل ابن البواب. إن ما يسترعي الانتباه ويستدعي التنويه عن هو قطة القلم المحرفة، التي ابتكرها ياقوت واشتهر بها، ونتج عن ذلك خط دقيق الطوالع كامل السمك في أفقياته وتمت بذلك أهم صفات الخط العربي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير