وإن الخط المحرف قد عرف من قبل إلا أنه لم يستخدم كما استخدمه ياقوت، وبذلك أحدث تغييره هذا إلى ثورة في عالم الكتابة، وضجة في أوساط الخطاطين والوراقين، لقد استوت الألفات وأخذت حقها في الطول، وبدت أطول مما عرف ولا يزال حرف الجيم مروساً كما هو عند ابن البواب، لقد قدم ياقوت في مصحفه هذا خطاً جميلاً بسطر رزين، ينساب بهدوء حروفه المنسجمة مع الرقة في عرقاته المجموعة وألفاته المتوازية، وبخطوطه تمت محاسن المدرسة البغدادية واكتملت بدءاً من ابن مقلة إلى ياقوت المستعصمي.
وقد أجمع القدامى على جودة خطه وبراعته، قال الذهبي في تاريخ الإسلام: (ياقوت المستعصمي المجود صاحب الخط المنسوب رومي الجنس، نشأ بدار الخلافة وأحب الكتابة والأدب وحصل خطوط منسوبة بابن البواب وغيره، كان يعرفها بخزانة الخلفاء، فجود عليها وعني بذلك عناية لا مزيد عليها، وقويت يده وكونت أسلوباً غريباً في غاية القوة، وسار إماماً يقتدى به، كتب بخطه الكسر) ..
وذكره في كتاب العبر فقال عنه: (أحد من انتهت رئاسة الخط المنسوب) .. وقال عنه ابن كثير: (كان فاضلاً مليح الخط، مشهوراً بذلك، كتب ختماً حساناً وكتب الناس عليه ببغداد)، وأطلق عليه صاحب كتاب تحفة الخطاطين لقب (قبلة الكتاب)، وذكر حبيب صاحب كتاب خط، وخطاطان أن ياقوت ترك ألف مصحف شريف بخطه ومن جملة المصاحف ما هو موجود في الأستانة، ويعود تاريخه إلى سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
ومصحف كبير بأياصوفيا وتاريخ سنة أربع وخمسين وستمائة ومصحف آخر جميل رائع ليس كمثله يعود إلى سنة اثنتي وستين وستمائة هجرية.
وكانت المصاحف المكتوبة بخط ياقوت ترسل هدية للملوك، ذكر السخاوي أن " بريسباي الشرفي توجه سنة سبع وسبعين وثمانمائة هجرة رسولاً إلى سلطان الروم من مصر ومعه هدايا سنية منها مصحف بخط ياقوت وخيول.
وفي توب قابي سراي مصحف كتبه ياقوت سنة تسع وستين وستمائة وكان في ملك أمير مكة والحجاز حسن بن أبي نمير محمد بن بركات المتوفى سنة ألف وعشر هجرية، فأهداه إلى الخليفة العثماني السلطان مراد، وأرسله من مكة إليه.
وأجزاءه وأعشاره دوائر مختلفة داخلها بالخط الكوفي، وأسماء السور بالأبيض على أرضية ذهبية، وزخارف نباتية بالأخصر في الفاتحة والبقرة، وباقي أسماء السور بالذهب على الورق نفسه، وأضيف في أخر المصحف ما نصه.
(هذا المصحف الفريد اللطيف والكلام المجيد الشريف أرسل من بلد الله الحرام لحضرة سلطان سلاطين الإسلام مولانا السلطان مراد خان، خلد الله ملكه إلى انتهاء الدوران، بخط الأستاذ على الإطلاق ياقوت مشهور الأفاق من المملوك الداعي بدوام دولته حسن بن أبي نمي ابن بركات سامحهم الله بجوده وكرمه ونعمه).
دخل العرب في بلاد الشام في الإسلام بعد الفتوحات، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن العظيم ليأخذوا منه تشريعهم في أمورهم التعبدية والدنيوية، وكان أن استشهدت طائفة من القراء والحفاظ في فتوحات بلاد الشام، وكان يزيد بن أبي سفيان أول الأمراء اللذين تبينوا حاجة أهل الشام إلى من يقرئهم القرآن في صدر الإسلام، فأرسل إلى الخليفة عمر بن الخطاب، يسأله أن يبعث إليه بعض الصحابة من حفظة القرآن من أهل المدينة.
فوجه عمر ثلاثة من الصحابة إلى بلاد الشام قاموا بتعليم الناس القرآن في حمص ودمشق وفلسطين، قال محمد بن كعب القربي جمع القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار، معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو أيوب، وأبو الدرداء، فلما كان زمن عمر بن الخطاب، كتب إليه يزيد بن أبي سفيان، أن أهل الشام قد كثروا وربوا، وملئوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمونهم، فدعا عمر أولئك الخمسة، فقال لهم: " إن أخوانكم من أهل الشام قد استعانوا بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين فأعينوني بثلاثة منكم، فاستهموا إي اقترعوا، فقالوا ما كنا لستهم، هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وأما هذا فسقيم، لأبي بن كعب، فخرج معاذ، وعبادة، وأبو الدرداء، فقال عمر ابدءوا بحمص، فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن أي يفهم ما يسمع، فإذا رأيتم ذلك فوجهوا إليه طائفة من الناس فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين ".
¥