فقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدراء إلى دمشق، ومعاذ بن جبل إلى فلسطين، وأما معاذ فمات عام طاعون عمواس، وأما عبادة فسار إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات.
اهتم الخلفاء والأمراء الأمويون بتعليم القرآن اهتماماً بالغاً، وحضوا على قراءته وحفظه، قال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: " علمهم القرآن حتى يحفظوه ".
وقال عتبة بن عمر بن عتبة ابن أبي سفيان لمؤدب ولده: " علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منهم فيهجروه ".
وأوصوا أهل الشام بقراءته القرآن وحفظه، وكان عبد الملك بن مروان أول من أمرهم بذلك، وتبعه الوليد وفي خلافة عمر بن عبد العزيز، ازداد اهتمام أهل الشام بقراءة القرآن الكريم، وكانوا يراجعون فيه أقاربهم اللذين يفدون عليهم من المدينة ومكة، فمن قرأ القرآن وحفظه قدروه وأجازوه، و من لم يقرأه ولم يحفظه تجنبوه وهجروه وحبسوه عندهم حتى يقرأه، ووكلوا به من يعلمه.
قال محمد بن مسلم الزهري في خبر وفوده على عبد الملك بن مروان: " دخلت عليه فسألني هل تحفظ القرآن؟ قلت نعم والفرائض والسنن .. فسألني عن ذلك كله فأجبته فقضى ديني وأمر لي بجائزة ".
قال إبراهيم ابن أبي عبلة العقيلي: " رحم الله الوليد وأين مثل الوليد، كان يعطيني قطاع الفضة أقسمها على قراء مسجد بيت المقدس ".
كان القراء من الشاميين يقرئون القرآن قراءة متواترة مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يدرسون القرآن في مساجد أجناد الشام، مثل مسجد الرملة، ومسجد بيت المقدس، ومسجد طبرية، ومسجد دمشق، ومسجد حمص، ومنذ منتصف القرن الهجري الأول أخذت تظهر في بلاد الشام طبقة من المعلمين المتخصصين، اشتغلت بتأديب الصبيان، قال ياقوت الحموي: " كان الضحاك بن مزاحم الهلالي نزيل دمشق المتوفى سنة خمس ومئة كان يؤدب الأطفال فيقال، كان في مكتبه ثلاث آلاف صبي، وكان يطوف عليهم على حماره وكان يعلم ولا يأخذ شيئاً ".
وافتتح الوليد بن عبد الملك أول مدرسة للأيتام، وجعل عليها من يؤدبهم ويعلمهم القرآن، كان المعلمون يقسمون تلاميذهم عشرات في مسجد دمشق، ويجعلون على كل عشرة عريفاً، وكان العريف يقرأ القرآن لتلاميذه سورة سورة وهم يعيدون ما سمعوا منه ويحفظون عنه، وإذا أخطأ أحدهم سأل عريفه، وإذا أخطأ عريفهم سأل شيخه ".
وكان العريف يمتحن تلاميذه بعد أن يختموا القرآن، فإذا أيقن أن أحدهم أتقن القرآن قدمه إلى الشيخ فأجازه، وأصبح عريفاً في حلقته، قال مسلم بن مشكم الدمشقي، قال لي أبو الدرداء: " أعدد من يقرأ عندي القرآن، فعدتهم ألفاً وستمائة ونيفاً، وكان لكل عشرة منهم مقرئ، وأبو الدرداء يكون عليهم قائماً، وإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء ".
انتشرت دراسة القرآن العظيم بمسجد دمشق في أيام عبد الملك بن مروان، وهي قراءة الجماعة سبعاً من القرآن بالتكرار وراء قارئ في مجلس واحد بعد صلاة الصبح، ثم أطلق السبع على الموضع الذي يقرأ فيه السبع من القرآن، وكان موضع السبع في مسجد دمشق الجهة الشرقية، من مقصورة الصحابة، ولم تكن قراءة ذلك السبع تتعدى ذلك الموضع متصلة مع جدار القبلة إلى الجدار الشرقي، وتجاوزت في أيام يزيد بن عبد الملك قراءة الجماعة سبعاً من القرآن في مجلس واحد وتخطت ضبط النص القرآني ومعرفة أسباب النزول والإحاطة بالمعنى واستخلاص الأحكام.
ولم تعد تقتصر على الدراسة النظرية المجردة، فقد أصبحت مجالس الدراسة منتديات تبحث فيها مسألة الخلافة والإمامة، وصفات الخليفة والإمام العادل وشروط الحكم الإسلامي الصالح، وغدت حلقات تناقش فيها الأوضاع والمشاكل القائمة وتقوم فيها سيرة بني أمية وتنتقد الممارسات ويعرض بسياساتهم تعريضاً شديداً.
وتشتمل المصادر المختلفة على أسماء القراء من الصحابة والتابعين والشاميين في صدر الإسلام وعصر بني أمية، ومن أشهر القراء من الصحابة الشاميين معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء وفضالة بن عبيد، وواثلة بن الأسقع الكناني وكان أبو الدرداء أكثرهم نشاطاً في تعليم القرآن وأقواهم أثراً في بلاد الشام.
¥