كان أكثر القراء التابعين الشاميين من أهل دمشق، وأقلهم من أهل حمص، وسائرهم من أهل فلسطين، وكان لقراء مسجد دمشق، وقراء مسجد حمص، نصيب وافر في تعليم القرآن ورواية حروفه، ففي المسجدين تجمع معظم قراء أهل الشام منذ صدر الإسلام، وفيهما تخرج أغلب التلاميذ، وكان بين شيوخ المسجدين وتلاميذهما تنازع في القراءة وتنافس فيها.
إذ كان كل فريق منهم يرى أن قراءته وحروفه أصح وأرجح من قراءة الفريق الثاني وحروفه، ولكن قراء مسجد دمشق كانوا أرفع مكانة، وكانت قراءاتهم وحروفهم أعلى رواية، ونشطت قراءة القرآن ورواية حروفه بمسجد بيت المقدس في الثلث الأخير من لاقرن الأول، وازدهرت ازدهاراً شديداً في القرن الثاني، وكان قراء مسجد بيت المقدس من أهل دمشق في أول الأمر، فقد كان بعض القراء من الصحابة والتابعين الدمشقيين ينزلون بيت المقدس ويعلمون القرآن بمسجدها، ومن أذكرهم واثلة بن الأسقع الكناني، وأم الدرداء الصغرى، وضمرة بن ربيعة، ثم أصبح في أهل فلسطين قراء علماء يدرسون القرآن بمسجد بيت المقدس ومن أشهره، إبراهيم بن أبي عبلة العقيلي الرملي، وجعل كثير من التلاميذ وطلاب العلم يرتحلون إلى مسجد بيت المقدس في القرن الثاني ليقرؤوا على شيوخه، وكان منهم من يأتي من أجناد الشام الأخرى، كدمشق وحمص ومنهم من يأتي من بقية الأمصار كمصر واليمن والحجاز والعراق وخراسان.
ساد خط المحقق في القرنين الثامن والتاسع الهجريين في كتابة المصاحف، وكان أغلبها قد كتب في دمشق والقاهرة، وفي القرن العاشر الهجري برزت مصاحف العهد العثماني وخطت بقلم النسخ الذي رست كتابته في المصاحف من ذلك الوقت إلى عصرنا هذا، وقد رأينا في الحلقات الماضية كيف بدأ الخط اللين في الظهور منذ القرن الرابع الهجري، وكانت المدرسة البغدادية هي التي حملت زعامة هذا الخط وهذا التحول في الكتابة، وابتدأت بابن مقلة ثم بن البواب وانتهت على يد ياقوت الستعصمي.
وفي أثناء ذلك تنوعت الخطوط في المصاحف المشرقية، وكانت هارات في بلاد فارس هي إشعاع فن حضاري كتابي جميل وقد أضافت مدرسة هارات لمسات من الجمال على مشق الحروف، وغدا المصحف الشريف في حلة بديعة أنيقة، وجاءت من بعد المصاحف المملوكية لتكمل مسيرة فن الخط في أحضان القرآن إذ اتسمت مصاحف هذه الفترة بضخامة حجمها وجلاء خطوطها وذلك لوقفها على المساجد والمدارس التي ازدهر بنائها في عهد المماليك، وامتازت بتطورها نحو الجودة، مع الاهتمام بتحليتها بالزخارف الفنية.
ويظهر في هذا القرن أول مصحف كتب بخط المحقق، وكان من وقف محمد بن قلاون سنة ثلاثين وسبعمائة هجرية، ويوجد في دار الكتب والوثائق المصرية، وكان قد حبسه لجامع القلعة، وأسماء سوره خالية من الزخارف، وهوامشه بلا طرر وفواصل الآيات تحمل علامة ميزان صغيرة مع سكون دائري إن جاز الوقوف بالسكون، وكتب في آخره: " أوقف هذا المصحف الشريف، مولانا السلطان المالك الملك الناصر محمد بن مولانا السلطان سيف الدين قلاون سقى الله عهدهما "
وجعل مقره بالجامع الكبير بالقلعة المنصورة، وشرط ألا يخرج من المسجد المذكور بوجه ما وقفاً صحيحاً شرعياً، ? فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ? [سورة البقرة، الآية 181].
بتاريخ سنة ثلاثين وسبعمائة.
وتمتاز سطور المصحف هذا بوضوحها وجلاء كتابتها لضخامة المصحف، وبحسن الربط بين الحروف وجمال التركيب في الكلمات، وفي الأوراق الثمانين التي يحتفظ بها متحف " توب قابي سراي " وهي جزء من القرآن الكريم بخط المحقق الجميل الرصين نلاحظ الوضوح في الحرف.
وقد أهمل الخطاط علامة الميزان التي استخدمت في الماضي فوق حروف " ر، س، د " ولم يستعملها إلا في كتابة البسملة، والمصحف الجميل هذا كتب بلونين يدلان على دقة الصنعة فيه إذ تناوبت سطوره فيما بين الكتابة بالذهب المصور ولون الازواردي الأزرق مع شكل باللون الأسود، وفيه من العناية الشديدة مما يدل على أن هذا المصحف قد كتب لسلطان أو أمير.
ويحتفظ متحف " مشهد " بمجموعة من المصاحف الجديدة كتبت بخط محقق منها أوراق من سورة " ص " إلى آخر المصحف، مع ترجمة الآيات باللغة التركية، كتبت بخط نسخ قديم مشكول.
¥