المفسرين " الزمخشري " وتبعه " البيضاوي أبو سعيد " صاحب التفسير المشهور المتوفى سنة خمس وثمانين وستمائة هجرية، وانتصر لذلك الإمام المجدد " تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي " المتوفى سنة ثماني وعشرين وسبعمائة وتلميذه " الحافظ المزي " المتوفى سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
ولاحظ أصحاب هذا الرأي أن تحدي القرآن للعرب أن يأتوا بمثله يزداد وضوحاً ويكتسب قوة بظاهرة غريبة حقاً، إذ لم يكتفي القرآن باشتماله على فواتح مختلفة يبلغ تعدادها تمام حروف الهجاء ولا بتأليفه تلك الفواتح من نصف الحروف الهجائية، بل حوى فوق ذلك من كل جنس من الحروف نصفه، فمن حروف الحلق ستة " الهمزة، والهاء والعين والحاء والغين والخاء " حوى النصف ثلاثة وهي " الحاء والعين والهاء " ومن المهموسة " السين والحاء والكاف، والصاد والهاء "، " الهمزة، والميم واللام والعين والراء والطاء والقاف والياء والنون ".
ومن الحرفين الشفهيين " الميم " ومن القلقلة " القاف والطاء " إلخ ...
إن هذه الحروف ذكرت تارة مفردة وتارة حرفين حرفين، وطوراً ثلاثة وأحياناً أربعة وخمسة؛ لأن تراكيب الكلام على هذا النمط ولا زيادة على الخمسة، إن رأي السلف يوضح أن الفواتح نظمت في القرآن على هذا النمط منذ الأزل، لتحتوي على كل ما من شأنه إتيان البشر بمثل هذا الكتاب العزيز ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، إن الاعتقاد بأزلية هذه الأحرف قد أحاطها بجو من التورع من تفسيرها، والتخوف من إبداء رأي صريح فيها والقطع بمعناها الذي لا يعلم تأويله إلا الله وهي كما قال الشعبي سر هذا القرآن.
إن جميع من خاض في معنى فواتح السور لم يدلوا فيها برأي قاطع بل شرحوا وجهة نظرهم، فيها مفوضين تأويلها الحقيقي إلى الله، وأزلية هذه الأحرف ما انفكت على سائر الأقوال تحطيها بالسرية، وسريتها تحيطها بالتفسيرات الباطنية، وتفسيراتها الباطنية تخلع عليها ثوباً من الغموض لا داعي له ولا معول عليه، وهناك من رأيي أن بعض السور القرآنية تفتتح بهذه الحروف كما تفتتح القصائد بلا وبل.
فلم يزيدوا في بادئ الأمر في أن يسموا هذه الحروف فواتح وضعها الله سبحانه وتعالى لقرآنه وهناك من قال أنها أدوات تنبيه لم تستعمل فيها الكلمات المشهورة، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فنسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد لتكون أبلغ في قرع السمع للمشركين في مكة ولأهل الكتاب في المدينة، إن الكفار لما قالوا ..
? لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ? .. [سورة فصلت، الآية 26].
وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون سبباً لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن، فأنزل الله عليهم هذه الحروف، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: (اسمعوا إلى ما جاء به محمد، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن، فكان ذلك سبب لاستماعهم، وطريقاً لانتفاعهم) ..
وخلاصة القول: إن هذه الأحرف علمها الحقيقي عند الله تعالى ولا يستطيع أحد أن يجزم بمعناها ولا يقطع به، هذا هو القرآن ليس فيه شيء من افتراء ولا فيه شيء من أخيلة الشاعر، أو سبوحات الأديب ولا يشبه كلام الفصحاء إنه وحي يوحى وتنزيل وهي رباني يلقى على النبي ذكراً ويأمره أمراً نزل نجوماً خلال حياته مع الأحداث والوقائع الفردية والاجتماعية، ولم يحط كتاب سواه بمثل العناية التي أحيط بها، ولم يصل كتاب كما وصل بتواتر سوره وآياته وألفاظه وحروفه وقراءاته ووجوهه، ونقطه ورسمه، وتخميسه وتعشيره وتحزيبه ومصاحفه وصحفه، وتجويد خطه وتزيين طباعته.
لقد أقبل العلماء على هذا الكتاب العظيم مشغوفين بكل ما يتعلق به، حتى أحصوا عدد آياته وحروفه، وعدد ألفاظه المعجمة والمهملة أطول كلمة فيه وأقصرها، وأكثر ما أجتمع فيه من الحروف المتحركة، واشتغلوا منه بأبحاث دون تلك وزناً معتقدين أن لهم في ذلك كله ثواباً عند الله وأجراً.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت السبع الطوال من سورة البقرة حتى سورة التوبة، مكان التوراة، والمئيين من سورة بني إسرائيل حتى سورة المؤمنون مكان الإنجيل، والمثاني: السور التي تلي المئين مكان الزبور، وفضلت بالمفصل السور التي تبدأ بـ " حم ") ..
¥